المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
آفاق وتداعيات الانسحاب الروسي المفاجئ من سورية

آفاق وتداعيات الانسحاب الروسي المفاجئ من سورية

الكاتب: النقيب رشيد حوراني                                                              

تاريخ النشر: 2016/03/30

أولاً: تمهيد

ظلَّت روسيا منذ اندلاع الثورة السورية في عام 2011 م المصدر الرئيس لتسليح نظام بشار الأسد، إضافة لوجود خبراء روس تواجدوا طوال الوقت في سوريا، إلى أن انخرطت في القتال بشكل مباشر عندما أيقنت بقرب انهيار النظام و"ميليشياته الطائفية" عابرة الحدود، ما اعتبر تصعيدًا نوعيًّا في التدخل الروسي في سورية، وهو تدخل تم بلا شك بالتفاهم مع إيران، الحليف الرئيس الآخر لنظام بشار الأسد.

 

كما أنّ الانهيارات المتسارعة في الوضع العسكري لنظام الأسد، التي أصبحت أكثر وضوحًا منذ بداية العام (2015) عجلت هذا التدخل، حيث فرض الثوار السوريون تراجعات ملموسة على النظام في الجبهتين الجنوبية والشمالية على حد سواء، بينما استمرت تراجعات القوات السورية أمام "داعش" في شرق البلاد.

 

كما أصبح الثوار في الجنوب على حدود محافظة السويداء المضطربة أصلا، بينما دخلت فصائل من الثوار بالفعل إلى مشارف ريف اللاذقية في الشمال، بعد أن حرَّرت كل محافظة إدلب وجزءاً كبيراً من محافظة حلب، وأحرزت تقدماً ملموساً في ريفي حمص وحماة.

 

وبدا واضحًا، بالرغم من الدعم البشري الذي يوفره حزب الله وميليشيات شيعية أخرى، والمساندة العسكرية النوعية التي يقدمها مستشارون عسكريون ومقاتلون إيرانيون، أن النظام لم يعد قادرًا على الحفاظ على خطوط دفاعه، وأن كلًّا من محيط دمشق الريفي وشمال المنطقة "العلوية" الساحلية بات مهددًا.

 

ثم ان التدخل أتى ضمن إطار وحسابات استراتيجية روسية سعت من خلاله روسيا إلى الاعتراف بدورها  عالميا، وبعد مغامرة لم تتبلور نتائجها بعد في أوكرانيا، تقدم الرئيس الروسي بوتين بعيدًا عن حدود روسيا، إلى الشرق الأوسط الذي تنسحب منه الولايات المتحدة وأوروبا عسكريًّا وسياسيًّا، ويتنامى فيه نفوذ حليفته إيران.

 

وجاءت ردود الفعل الدولية والإقليمية على التدخل الروسي مرتبكة ولم ترتقِ إلى مستوى التحدي أو الرد الملموس على الخطوة الروسية.

وفي 2 أكتوبر/تشرين الأول، أصدرت سبع دول (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، وتركيا، والسعودية، وقطر) بيانًا مشتركًا ضد التدخل الروسي. في اليوم نفسه، وصدر عن الرئيس الأميركي، باراك أوباما، تصريح اعتبر فيه أن سوريا ستتحول إلى مستنقع للروس.

 

وتحولت روسيا بتدخلها المباشر في سوريا على مستوى الرأي العام الداخلي والخارجي، إلى هدف لكراهية القطاع الأكبر من الشعوب،  حيث عارض ما يزيد على 69 % ممن شاركوا في استطلاع للرأي أُجري في الداخل؛ التدخل العسكري بالشأن السوري تحت أي ذريعة كانت.

 

وباتت تُرى اليوم من عموم العرب والمسلمين، وبصورة تفوق حتى حقبة الاحتلال السوفيتي لأفغانستان، باعتبارها قوة إمبريالية، تقف ضد خيارات الشعوب وإراداتها. لذلك فقد يمر زمن طويل قبل أن تستطيع موسكو محو هذه الصورة السلبية.

 

أمَّا عن الهدف المعلن من تدخلها وهو محاربة الإرهاب، فيقبع في ذيل قائمة دواعي الكرملين، إذ إن روسيا لم يلحقها حتى الآن أي تهديد إرهابي على خلفية ما يجري في سوريا، على العكس من ذلك، استقطبت الساحة السورية باعتراف نائب رئيس جهاز الأمن الاتحادي الروسي، سيرجي سمير نوف، نحو 2400 متشدد روسي.

 

ثانياً: النتائج العسكرية للتدخل الروسي وانعكاساتها سياسياً

ركزت المقاتلات الروسية قصفها منذ بدء تدخلها 30/9/2015 وحتى تاريخ انسحابها المفاجئ  15/3/2016 على ثلاث مناطق، في محافظة إدلب الشمالية، بجوار المعقل الساحلي للنظام حول اللاذقية، وفي اللاذقية، ومناطق أخرى في محافظة حماة، لمنع الثوار السوريين من الضغط على الساحل بشكل أكبر، و المناطق حول حلب، أكبر مدن سوريا.

بالإضافة إلى مساندتها جيش النظام وميليشياته في السيطرة على مدينة الشيخ مسكين الاستراتيجية في درعا جنوب البلاد.





وأكدت الشبكة السورية لحقوق الإنسان 23/3/2016 أن الغارات الروسية في سوريا قتلت نحو 1984 مواطنًا، من ضمنهم 443 طفلا، و286 امرأة، خلال ستة أشهر، وأن “85% من الهجمات الروسية، وقعت ضمن مناطق تخضع لسيطرة المعارضة السورية، واستهدفت مواقع مدنية، دون أي تواجد للمنشآت العسكرية فيها، وارتكبت القوات الروسية مالا يقل عن 106 مجازر، وقع العدد الأكبر منها في كانون الثاني 2016 م ، وفي هذا الشهر تفوقت القوات الروسية على قوات النظام السوري في حصيلة قتل المدنيين، وتتوزع هذه المجازر بحسب المحافظات
كما في الشكل التالي:

وعلى الرغم من التمجيد الإعلامي المبالغ فيه للتدخل الروسي على مستوى الفعالية والذكاء و"الضرورة، إلا أن حسابات الحقل الروسي لم تتناسب مع حسابات البيدر"، حيث يقول المحلل السياسي الاستراتيجي الروسي فلادمير فرولوف: إن الروس نجحوا بعد هذا التدخل في المساهمة في التصويت الجماعي على القرار الأممي للحل السياسي في سوريا، وهذا الإجماع لم يكن ممكناً لولا الدور الروسي الذي به كسر الحصار الدبلوماسي الغربي على روسيا.

 

وتبين عسكريا أن القدرات القتالية للجيش السوري والحلفاء الإيرانيين أسوأ مما كان متوقعا، فتحرير الأرض اقتصر على بضعة كيلومترات وبالرغم من التدمير للبنية التحتية ، لم يحصل أي تطور جذري والكلام لفرولوف.

 

وأضاف أنّ الجيش السوري يواجه مشكلات لا يستخف بها وعدد الضحايا المدنيين يتزايد.

 

ولكن في المقابل أفشلت روسيا بتدخلها الخطة التركية الرامية إلى إقامة منطقة عازلة في الشمال السوري، وساهمت مع الولايات المتحدة في زرع الشوكة الكردية على الحدود التركية، ما يعاني ورقة ضغط جديدة في الملف السوري بيد الروس أمام الأتراك في أي تفاوضات قادمة.

لهذا اتخذ بوتين قرار انسحاب الجزء الأكبر من قواته العسكرية بكل هدوء، في إطار تخفيف النفقات العسكرية هناك، وحرص السيد بوتين أن يظهر بمظهر الحريص على مسار العملية السياسية والعامل على إنجاحها.

 

مع الأخذ بعين الاعتبار أن الروس في هذه المرة ينظرون إلى تجارب سابقة كأفغانستان والشيشان وغيرها، لذا كان التحرك في الداخل السوري حذرًا للغاية، ومكبلًا بإرث الماضي المندفع.

 

ثالثاً: قرار الانسحاب المفاجئ وأثره على الحل السياسي

ألقى قرار روسيا بسحب الجزء الأكبر من قواتها من سوريا بظلاله على مسار المفاوضات، وباتت هناك معطيات جديدة وانتعشت أجواء انعقاد هذه المحادثات، حيث تحدثت المعارضة السورية - التي رحبت بحذر بالقرار الروسي لكنها طالبت بالتحقق من تنفيذه واقعا على الأرض - عن أجواء إيجابية وجدية تسود محادثات جنيف، ولأول مرة يتم الحديث عن وضع جدول أعمال للمحادثات، أساسه بحث آلية تنفيذ فترة الحكم الانتقالي في سوريا.

 

وقد يكون قرار الانسحاب المفاجىء بمثابة دفع الحكومة السورية إلى إبداء مرونة في مواقفها خلال محادثات جنيف، في ظل أنباء تؤكد انزعاج موسكو من مواقف متعنتة صدرت مؤخرا عن وزير الخارجية السوري وليد المعلم، خاصة أن تاريخ روسيا لم يشهد أنها دافعت عن قضية حتى النهاية بل تتشبث بها حتى تحقق بعض مصالحها ثم تتخلى عنها، وها هو بوتين يبيع الأسد في سوق النخاسة بعدما فشل في إقناع النظام السوري الحالي بتقديم تنازلات.

 

وأضف إلى ذلك أن القرار عزز من فرص الجيش السوري الحر والفصائل المعتدلة، والهيئة العليا للتفاوض، بعد أن فقدت القوات الحكومية أحد أهم الأذرع الداعمة لها في مواجهة المعارضة، وحاولت روسيا جاهدة عدم الاعتراف بهما.

 

كما أن تكلفة الحرب في سوريا باتت عالية في ظل وضع اقتصادي صعب تعيشه روسيا،  وقد كشفت دراسة أعدها "معهد واشنطن" نقلاً عن ضابط أميركي سابق، إن التكلفة الماليّة للحملة العسكرية الروسية على سوريا تتراوح بين 2.4 مليون دولار و3 مليون دولار يوميا، بخلاف تكاليف أخرى لقطاعات ووحدات عسكرية مختلفة.

 

بالإضافة إلى كل ماسبق تعتبر الضغوط الدولية علي الروس خاصة بعد "جرائم الحرب" المتتالية وطرح احتمالات محاكمة بوتين أمام المحكمة الجنائية الدولية، بعد قصف عشرات المستشفيات والمدارس والمساجد ( قصف وتدمير 30 مركزاً طبياً ومشفى ، و27 مدرسة )(4)، ومخاوف روسية المتنامية مما تطلق عليه أمريكا الخطة (ب) البديلة في سوريا في حالة فشل وقف إطلاق النار، هي دافع التحرك الروسي لإنجاح وقف النار والتفاوض مع المعارضة السورية ، الأمر الذي يعتبر نابعاً من قلق روسي من التورط  في أوحال حرب أهلية هناك على غرار افغانستان وغيرها.

 

 وهو الأمر الذي أكدته "رندا سليم" خبيرة بمعهد الشرق الأوسط في المشرق العربي الذي حضرت مناقشات في روسيا حول الخطة الأمريكية: "يبدو أن المسؤولين الروس يريدون اغتنام الفرصة الدبلوماسية لأنهم يخشون من مستنقع سوريا، وأنهم يخشون ما قد تفعله الولايات المتحدة إذا فشل جهود السلام الحالية".

 

خلاصة:

نذكر أنّه أثناء الحملة الانتخابية الروسية في 2012، وفي إطار لعبة تبادل الكراسي مع ديمتري مدفيديف، نشر بوتين مقالات عدة في الصحف الروسية دعا خلالها إلى دور عالمي أكبر لروسيا في العالم، بهدف حشد الشعور القومي، وبعث الحنين لأيام القوة في عهد الاتحاد السوفياتي، ولفت الأنظار عن عجزه بالنهوض بالاقتصاد الروسي وتخفيف اعتماده على النفط والخامات، والإخفاق في محاربة الفساد وبناء مؤسسات قوية، والخلل الكبير في النظام القضائي. وبدا واضحا أن الكرملين يستخدم ورقة التعصب القومي لحل أزماته. 

وإزاء ذلك وجدت النخب الحاكمة ضالتها في تصديرالمشكلات إلى الخارج. ومع الأزمة الأوكرانية بداية العام 2014، وضم بوتين لشبه جزيرة القرم ودغدغة المشاعر القومية ارتفعت شعبيته إلى مستويات قياسية رغم التراجع الاقتصادي الكبير، بعد الآثار الكارثية على الاقتصاد الروسي، بسبب العقوبات الغربية وانهيار أسعار النفط إضافة إلى الجمود في الوضع الأوكراني، يبدو أن موسكو قررت خوض مغامرة جديدة، لكنها على عكس سابقتها لا تحظى بإجماع كبير، وقد تدخل الكرملين في دوامات يصعب الخروج منها.

 

ومن ذلك يبدو أنّه لن يكون للإعلان الروسي أثر كبير على إنهاء الضربات الروسية ضد مناطق المعارضة في سوريا، طالما أنّ  جزءا من القوة الروسية سيظل موجودا في سورية بحسب إعلان الرئيس الروسي بوتين.

 

ولكن في المقابل قد يكون لهذا الانسحاب الجزئي أثر سياسي في الضغط على وفد النظام  الذي يبدي إلى الآن عدم جديته في بحث الانتقال السياسي الذي يفضي بالمحصلة إلى أن يذهب بشار الأسد وزمرته وظهر ذلك بشكل واضح من خلال ارتباك  رئيس وفد النظام بشار الجعفري وتهربه من بحث الانتقال السياسي خلال الجولة الأولى من المفاوضات التي ختمت في 24/3/2016  .

____________________________________________________________________

الهوامش والمصادر:

 

1–  الجزيرة نت ، انقسام روسي بشأن التدخل العسكري بسوريا.

www.aljazeera.net/news/reportsandinterviews/2015/10/3 /انقسام-روسي-بشأن-التدخل-العسكري-بسوريا

2–  TRT العربية ، الشبكة السورية: الغارات الروسية أودت بحياة 2000 شخص في سوريا.

https://goo.gl/QVr83s   

3–  ن بوست، فريق التحرير ، ماذا بعد قرار الانسحاب الروسي من سوريا

http://goo.gl/LXbsFs

4–  حصاد بضعة أشهر من التدخل الروسي

http://radar2.net/External-33323.html

 

____________________________________________________________________

(للاطلاع على الدراسة كاملة يُرجى تحميل ملف pdf المُرفق أسفل الصفحة)

---------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2016




486.34 كيلوبايت

تابعنا على الفيسبوك

القائمة البريدية


تابعنا على تويتر

جميع الحقوق محفوطة للمؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2024 / تنفيذ وتطوير شركة SkyIn /