الاستجابة النفسية للضحايا بعد الكوارث والصدمات
ندوة بعنوان (الاستجابة النفسية للضحايا بعد الكوارث والصدمات)
إعداد: وحدة الرصد والمتابعة
تاريخ النشر: 2023/05/07
عقدت المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام في إطار تعاونها مع منظمة نبض الإنسانية والمعهد الإسكندنافي لحقوق الإنسان، ندوتها الثانية ضمن برنامج ندواتها المتعلقة بكارثة الزلزال الذي أصاب جنوب تركيا وشمال سوريا في السادس من فبراير/شباط الماضي، بعنوان: (الاستجابة النفسية للضحايا بعد الكوارث والصدمات).
قَدّمَ الندوة الدكتور هيثم مناع (الذي سبق وشارك في عدة فرق دولية للمساعدة النفسية في مناطق الصراع) وأدارها د. محمد خير الوزير.
وفيما يلي نص الندوة وفق تسلسل عرضها:
تقديم:
في عالمِنا المُضطرب تُشكلُ الكوارثُ الطبيعيةُ تهديدا كبيرا ومتزايدا على طبيعة الحياة العادية للبشر..
منذ نهاية العقد الثاني لهذا القرن، يتأثر سنويًّا قرابة /175/ مليون طفل على مستوى العالم بالكوارث الطبيعية، بما في ذلك الزلازل والفيضانات والأعاصير والجفاف وموجات الحر والعواصف الشديدة، ولا تميّزُ الكوارث الطبيعية بين رجل وامرأة، طفل أو كهل، مسلم أو مسيحيّ أو هندوسيّ...بين بلد غنيّ وآخر فقير.
فقط في الولايات المتحدة الأمريكية، وقعت /119/ كارثة طبيعية بين عامي 2010 و2019، ولا حاجة لوضع خارطة النكبات الطبيعية منذ بداية القرن لأنها تثير الرعب بكل المعاني.
من النجدة الإسعافية إلى الحماية والوقاية:
لشديد الأسف، كما تعاملَ عالمنا المعاصر مع الأمراض، تعاملَ مع الكوارث والنكبات، حيث تستعجلُ الدول والمنظمات فرق الإنقاذ بعد وقوع الكارثة، ويُهمّشُ موضوعان أساسيان هما الوقاية والحماية، أي بناء استراتيجيات بعيدة النظر لحماية الأشخاص والمصانع والإسكان والمزارع والنبات والحيوان.
ولشديد الأسف أيضًا، وكما تعاملنا مع زلزال أزمير وهايتي وتسونامي ..... نضطر اليوم للتعامل مع النائبة التي أصابت أهلنا عبر الإسعافات العاجلة والمساعدات الإسكانية والغذائية والدوائية الطارئة ومعالجات ما بعد الصدمة.
لذا أنوّهُ منذ البدء إلى أن طلب الطوارئ الطبية النفسية الذي أتحدث فيه، هو طب طوارئ، ومن المطلوب، بمجرد تحجيم الخسائر ما أمكن، أن نطرح القضايا الأساسية لوقاية وحماية الإنسان والبيئة على المدى المتوسط والبعيد، الصحة النفسية أساس لبناء مستقبل سليم وليست مجرد مهمة طارئة تستجيب لكارثة.
الحالة المجتمعية بعد الزلزال:
إذا زلزلت الأرض زلزالها
وضعت هذا المجسم للإشارة إلى موضوع التغيير الكبير على الروتين اليومي بعد تغيير الخارطة البشرية لمحيط الأشخاص، فالمدرسة لم تُعد نفس المكان، فهي إما تهدمت أو أغلقت، والبيت أو المخيم لم يعد نفسه، مجسم الطبقات الاجتماعية يتساقط، وتتساقط الصداقات والعداوات ... لأن من أوقفك وأهانك على الحاجز بالأمس قد يكون جثة من الجثث التي جرفها الزلزال، كانت العائلة قبل الزلزال مكونة من ثمانية أو عشرة أشخاص أما اليوم؟!
خرجت السيدة... مع أبنائها من منزلها المتشقق وبسمة البقاء على قيد الحياة تصفعها المجاهيل، تحمل أبناءها إلى أقرب كنيسة أو مسجد، ثم تتركهم بعد أن نبهها طفلها إلى تشققات في الجدران تشبه تلك التي كانت في بيتهم.
تتوجه العائلة إلى أقرب مخفر للشرطة، فتجده خاليًا إلا من الأوراق والملفات التي لم يعُد لها أهمية تُذكر.
في معمعان الكارثة يصرخ الجميع، لا تسيسوا المساعدات الإنسانية، أما في الميدان، فثمة من يعمل مساعدا ومنقذا، وثمة من يستثمر في الألم العام... فكما للحرب أمراء وسماسرة، للكوارث الطبيعية تجارها وسماسرتها أيضا.
الخارطة النفسية – الاجتماعية بعد الزلزال:
بعد أية كارثة يحتاج كل شخص لإعادة بناء منطقه ومرجعياته، لأن هناك اضطراب في العلاقة بين الإنسان والمحيط ناجم عن تفاعل العديد من الاختلالات الوظيفية الناتجة عن صدمة الزلزال، الأمر الذي يستدعي عند كل شخص بشكل واعٍ وغير واعٍ أيضا، قراءة ذاتية في المراحل الثلاث لمعالجة المعلومات الصادمة التي يتلقاها العقل البشري:
تشفيرها (أو إدخال المعلومات في النظام المعرفي وتشكيل برنامج "engrom").
وتخزينها (أو الحفاظ على تتبع الذاكرة).
واستعادتها (أو عملية إعادة أثر الذاكرة إلى الوعي).
هنا يوجد تباين بالضرورة بين أشخاص سبق وتعرضوا للصدمات والكوارث وبين من يتعرض لها أول مرة فقد أمان السكن والغذاء والدواء قبل الكارثة، ومن يفتقده أول مرة.
باختصار، كل حالة إنسانية هي حالة خاصة، ومن الضروري إدراك هذه الفوارق في المساعدة والدعم النفسي لضحايا الزلزال، كذلك تنظيم حلقات علاج جماعية تكون بمثابة شعور عام بالمشاركة في العلاج كما الحال في الشراكة في المصاب.
الآثار النفسية الخمسة الأهم للزلزال:
اضطراب ما بعد الصدمة
الآثار النفسية للكوارث الطبيعية:
وفقا لنوع ومدى الخسارة، قد يشعر الأفراد المتأثرون مباشرة بالكوارث الطبيعية بإحساس قوي بالحزن والذعر والخسارة والخوف والحزن.
قد تظهر أيضا صعوبات في النوم والغضب والتهيج والشعور بالذنب..
قد يستفيد الأشخاص، الذين يعانون من العديد من الأعراض التالية، والتي تستمر لمدة شهر أو أكثر، من الاستشارة أو دعم إضافي للصحة النفسية.
الكوابيس أو غيرها من الذكريات المتطفلة (غير المرغوب فيها) للكارثة، محنة شديدة عند التذكير بالكارثة أو عند تذكر الظروف المزعجة، تجنب المحادثات أو الأخبار أو ذكريات الكارثة، تغيير في طريقة تفكيرهم أو شعورهم تجاه أنفسهم أو الآخرين أو العالم، اضطراب النوم (صعوبة في النوم أو البقاء نائما، الاستيقاظ المبكر جدا)، التهيج، ردود فعل جفل قوية، نوبات ذعر، رهاب المعاودة، قلق متزايد ومكثف، بما في ذلك الهياج أو الأعراض الفيزيولوجية (مثل ضيق التنفس وتوتر العضلات)، اكتئاب المزاج، فقدان الاهتمام بالأنشطة أو الأشخاص، انخفاض مفاجئ في تقدير الذات، تغيرات مفاجئة في الشهية (زيادة أو نقصان) مع ظهور أعراض رهاب المكان.
زيادة استخدام مواد الإدمان، بما في ذلك الكحول والتدخين، و عند الأطفال تظهر أحيانا بيلة ليلية.
الآثار النفسية في حالة عيانية:
على العكس من عوامل الحماية والوقاية، يتضح لنا في الميدان أن هناك اختلافات بين الأفراد في تصور ما هو صادم أم لا.
أدت المقارنة بين معدلات انتشار التعرض للحالة المؤلمة والاضطراب نفسه، إلى أن يأخذ الباحثون في الاعتبار البعد الذاتي للصدمة، والأوضاع الخاصة المحيطة بالضحايا عند وقوعها، في كل ما يتعلق بالتشخيص والتقييم الذي يمكن أن يقوم به المعالج للحالة المؤلمة في لحظة حدوثها.
مثلا في حالة الشمال السوري؛ لسنا أمام أول صدمة أو أزمة عند السكان، فقد كان قسم كبير منهم ضحية القصف الجوي وهدم المنازل وقصف المدارس والمشافي ومعارك التحامية corps à corpsعسكرية متعددة لم تشكل حماية المدنيين أو الفئات المستضعفة فيها أية أهمية عند حملة السلاح من مختلف الجبهات.
هذا يعني أن غياب الأمن والسلامة الشخصية قضايا سبق وتعرض لها معظم السكان في أكثر من واقعة أو سبب.
دائرة الاستجابة النفسية:
كما الحال في العيادة، حيث تشكل القصة المرضية ركنًا من أركان التشخيص والعلاج، من الضروري الإجابة على أسئلة تواجه القائمين على الصحة النفسية بعد الزلزال، أسئلة من قبيل:
- هل كان الوضع النفسي والعائلي والمعاشي للشخص مقبولا قبل الكارثة؟
- هل ثمة شعور عند الشخص بأنه استطاع نسبيًّا تجاوز ما مرّ به من أزمات وصعوبات قبل الكارثة؟ وكيف؟
- هل كونت التجارب الشخصية السابقة نوعًا من الخبرة والقدرة على التعامل مع الكوارث؟
- ما هي المشكلات التي لم يتمكن من التعامل معها وتجاوزها قبل لحظة الزلزال؟
- هل يمكن أن تشكل الكارثة نقطة انطلاق جديدة يُبنى الأمل فيها من مختلف أشكال المعاناة التي مرّ بها، والتي لم تطل الحق في الحياة أو منح الزلزال فرصة حياة جديدة؟
- لا يمكن لهذه الأسئلة أن تعطي إجابات واحدة لكل شخص ومكان وحدث.
- وليس علينا أن نتفاجأ مثلا، إذا كان استعراض القصة الشخصية سببا عند البعض في تدهور حالته، مثل قدماء المقاتلين في الجيش الأمريكي في العراق وأفغانستان، أو في بعث الثقة والأمل والتجاوز، كما هو الحال عند من بحث عن دور يساعد به الأهالي يوم الزلزال كما سبق وفعل في الكوارث التي سبقته من تهجير وعنف وحصار مادي ومعنوي.
مبادئ أساسية للدعم النفسي والاجتماعي
مرتكزات الدعم النفسي للأطفال سنتناولها في محاضرة خاصة بالأطفال
الحق في الأمل:
- تحقيق نتائج أفضل بعد الكوارث أو الصدمات الجماعية يعتمد فقط على فرق المساعدة، ومن المُلاحظ في مناطق الكوارث أن تمتّع الضحية بواحد أو أكثر مما يلي، يجعل منه طرفا في الإسعاف والنجدة لغيره أكثر منه مجرد ضحية..
- النظرة التفاؤلية للحياة (الأمل في المستقبل كبير)
- التفكير الإيجابي La pensée positive عند مواجهة المصاعب وحسن التصرف.
- ثقة داخلية بأنك قادر على تجاوز هذه الكارثة كما تجاوزت غيرها.
- الاعتقاد بأن الذين ظلموا بلدك وشعبك مضطرين لتعديل سلوكهم والاهتمام أكثر بمأساتك.
- الاعتقاد بأن هذا الزلزال سيزلزل أيضا كل من أساء إليك.
- الاعتقاد بأن الزلزال يمكن أن يزلزل أيضا حالة الاستعصاء التي يعيشها الوطن والمواطن.
- الإيمان بالله و/أو الالتزام بقضايا عادلة.
- وجود قناعة إيمانية داخلية بأنك محظوظ مهما كانت الظروف.
- توفر مساعدة عملية لك بعد الزلزال: سكن، عمل، بعض المال إلخ.
تجارب مفيدة للسوريين والسوريات:
التجارب الناجحة في بلدان أخرى مفيدة جدا لإنضاج القدرات والمهارات وكسب الوقت (غزة، هاييتي، CUMP...)
في عام 1990 وفي ظل الاحتلال الإسرائيلي، أسس الفقيد الصديق إياد السراج (1944-2013 ) برنامج غزة للصحة النفسية، في واحدة من أهم تجارب الدعم النفسي للضحايا في ظروف الأزمات الكبيرة، لم يكن ابن قرية بئر السبع الذي خرج منها طفلا بعد النكبة يملك أي شيء سوى المعرفة والمقاومة لظروف تفوق القدرة البشرية العادية للمقاومة، في 1977 كان أول طبيب نفسي في غزة، وعمل على معالجة ضحايا الاحتلال وأطفال الانتفاضة الأولى مع نضاله لتعزيز ثقافة حقوق الإنسان والمقاومة السلمية.
أسس في 1990 برنامج غزة للصحة النفسية الذي أصبح مرجعا أساسيا لكل الأطباء والمسعفين، كون هذا المركز عمل على معالجة ضحايا مختلف أشكال النكبات والكوارث الناجمة عن الاحتلال والحصار والعدوان المتكرر على سكان قطاع غزة.
تعرّفتُ عليه قبل ربع قرن، وتعاونّا في مجالات عديدة طبية وحقوقية وإنسانية، كذلك في مبادرات أطلقها لتوحيد الصف الفلسطيني، وفي بعثتي تحقيق قمت به لقطاع غزة بعد عدوان الرصاص المسكوب، كان إياد وبرنامج غزة للصحة النفسية مدرسةً لنا في الإجابة على أسئلة أساسية حول مستقبل الشبيبة والطفولة بعد الصدمات وتعزيز المناعة الذاتية للضحايا.
بعد الكارثة، ما العمل؟
لا تبعث الأوضاع الميدانية على كثير من التفاؤل، فالتمزق المجتمعي سبق الزلزال ولن يختفي بوقوعه، فمنذ 12 عاما كان المجتمع الأهلي بالمعنى الواسع للكلمة، الضحية الأولى لمختلف أشكال النزاعات المسلحة في البلاد.
لم تتوقف لحظة فكرة السيطرة على المبادرات المجتمعية في مختلف المناطق، ناهيكم عن التوظيف البائس للمساعدات الإنسانية والطبية في استراتيجيات هيمنة داخلية وخارجية.
ليس سرا عكوف الدول والمنظمات الإنسانية عن قيامها بواجباتها تجاه النازحين واللاجئين السوريين قبل الكارثة، وأن ما قدمته مثال، الإدارة الأمريكية لسوريا في 12 عاما، لا يتجاوز 2 % مما قدمته لأوكرانيا في عام واحد!؟
بكلمة؛ على السوريين والسوريات الاعتماد على أنفسهم أولا في كل المبادرات الضرورية لتخفيف آثار الزلزال على أبنائهم وإخوتهم في مختلف المناطق التي تعرضت للكارثة. وأغتنم الفرصة لتوجيه التحية والعرفان لكل المبادرات الأهلية والطبية في مختلف المحافظات السورية لجهودها الجبارة في مساعدة الضحايا حيث تمكنت من تقديم العون.
خطوات عملية ضرورية:
أولاً: من الضروري حاليا بناء وتأسيس فرق عمل، متعددة الاختصاص مكونة من الأطباء النفسيين وأطباء الأطفال والممارسين العامين والأخصائيين الاجتماعيين وعلماء النفس والممرضين المدربين تدريبا خاصا في الطب النفسي في حالات الطوارئ والكوارث، لضمان الرعاية المناسبة لـ "الجرحى النفسيين" أثناء الكارثة وما بعدها من تداعيات نفسية واجتماعية قاسية، وتكوين الكوادر السورية على ذلك في دورات تأهيل ميدانية وعن بعد، مكثفة ومنتجة بالتعاون مع خبراء دوليين في الكوارث الطبيعية والصدمات.
أليس من الكارثي أنه وبعد عقد من الزمن، لا يوجد في عموم سوريا مركز واحد للمساعدة الطبية- النفسية وإعادة التأهيل، أو المساعدة القانونية لضحايا الانتهاكات الجسيمة لحقوق البشر!؟
ثانيا: بناء جسور التكامل المعرفي والتعاون الوثيق والثقة المتبادلة بين مختلف المبادرات والاختصاصات، بين من يتابع الإصابات الجسدية وبين من يتوجه اهتمامهم للاضطرابات النفسية والعقلية مع من يقوم دوره على تسهيل إعادة الاندماج في المجتمع الذي يجد المصاب نفسه معه في حالة مواجهة.
هذه الطريقة هي الأجدى للوصول إلى نتائج فعالة، بشرط أن تكون عند الطبيب المعالج القدرة على الاستماع وعند طبيب الأمراض النفسية ضرورة التفكير بالآلام العضوية وعند المساعد الاجتماعي خاصية اكتشاف مواطن الخلل الوظيفي الذي يمكن أن يفوق معالجي النفس والجسد.
ثالثا: تطوير عقيدة رعاية تتكيف مع المراحل الثلاث لعلم الأمراض:
- المرحلة المباشرة (في الميدان (
- والمرحلة المتأخرة (الأسابيع الأولى)
- والمرحلة المتأخرة المزمنة (الحالات العابرة أو طويلة الأمد التي تستمر إلى ما بعد الشهر الأول).
رابعا: التعاون البنّاء بين فرق العمل على كامل الأراضي السورية.
خامسا: تعميم التجربة لتشمل مختلف الاضطرابات النفسية الجسدية المتراكمة في البلاد.
سادسا وأخيرا: اعتبار أية إعاقة أو مضايقة أو محاولة تقييد أو سيطرة على هكذا مبادرات من أجل الإنسان، جريمة جسيمة تقوم المنظمات الحقوقية السورية والدولية بفضحها وملاحقة أصحابها.
__________________________________________________________________
(للاطلاع على التقرير كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)
---------------------------------------------------------------------------------------
الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2023