الدفنُ المتعذّر - ابن عربي وابن رشد، ونحن.!!!
الدفنُ المتعذّر
ابن عربي وابن رشد، ونحن.!!!
د. محمد حافظ يعقوب
أكاديمي، وكاتب وباحث فلسطيني.
"أعظم ماطَرأ عليّ في النكبةِ أنّي دخلتُ وولَدي عبدُ الله مسجداً بقرطبة وقد حانت صلاةُ العصْرِ، فثارَ لنا بعضُ سفلةِ العامّة فأخرجونا منه" (ابن رشد)
محمد بن علي ابن عربي (560-638 هـ- 1165-1240م) / ابن رشد 1226-1198م) 595هـ
"وروى أنه (ابن رشد) قدم مراكش وافداً على يعقوب المنصور ونزلَ بجوار الشيخ أبي العباس السبتي فقيل ذلك لأبي العباس السبتي، قال فقيه الأندلس وابن فقيهها يفتح الله في ضيافته. وإذا بالحرة زوجة يعقوب المنصور بعثت له خمسمائة دينار، فقال لبعض أصحابه قم بنا حتى نزور هذا الفقيه واحمل الدراهم أو قال الذهب معك. فلما بلغه سلّم عليه وطرح المال بين يديه وقال له: هذه ضيافتك. فقال له: من أنتم، رُحمْنا بكم؟ فقال: عبيدكم أحمد السبتي. ..فروى أن الشيخ أبا العبّاس أخذته الحمى في تلك الليلة، وقال لأصحابه: هذا رجلٌ عاملناه بالخير فدعا علينا بالحمى، وزعموا فيما رووا أنه قال: اللهم سَلِّطْ عليه الموت، أو كلامٌ هذا معناه، فضربه وجعٌ في تلك الليلة، فما أصبح حتى خرجت روحه. (....) رُويَ أن الحفيد هذا كانت فيه نزعةٌ اعتزالية، فله تواليف عجيبةٌ كبداية المجتهد ونهاية المقتصد .. وأنه توفي عام خمسة وتسعين وبقي بقبره مائة يوم وأتت أسلافُه ونبشوا عليه وحملوه إلى قرطبة. ومن عجيبِ الأمرِ أن موضِعَ قبرِهِ فيما زعموا لمّا مات أبو العباس عام إحدى وستمائة دُفن فيه وبقي بعد موت أبي الوليد ست سنين لم يُدفنُ فيه أحدٌ حتى دُفنَ فيه الشيخُ رحمه الله"[1]
ما الذي تقوله روايةُ كاتب سيرة الشيخ أبي العباس السّبتي، المقرّب من الخليفة يعقوب المنصور الموحدي، بخصوص ابن رشد؟ وبالأصح ما الذي لم تقُلْهُ هذه الرواية الفريدة أيضاً ؟ لنبدأ بالتفاصيل.
1
جرت أحداثُ "القصة" في العام 595 هـ / 1198مـ، أي في السنة التي توفي فيها كل من أبي الوليد ابن رشد ثم يعقوب المنصور (بعده بأشهر قليلة)؛ وإثرَ محنة ابن رشد وصحبه من أركان حزب "النظر العقلي"، وبعد عودة يعقوب المنصور من قرطبة إلى مراكش، ورجعته عن قراراته بخصوص "تحريم الفلسفة" على الخصوص.
لاتشيرُ الرواية إلى لقاء مباشر بين قطبي "التيارين المركزيين" في دولة الموحدين، أي مايُدعى بتيار التصوّف، وبالأصح التزمُّت، ومايُقالُ إنه تيارِ"النظرِ العقلي". ولكنها توفر لنا أمرين. أولاهما أنّ لكلٍ من الرجُلين معرفةٌ كافية بالآخر، وثانيهما أن الرواية تتكشّف بما لايدع مجالاً لأي لَبْس، أن الشيخ السبتي يُكنّ لابن رشد عداوةً لم تستطع كلماتُ الراوي المتحفظة إخفاءها أو التخفيف من حدّتها. غير أن ماهو بارز في الرواية أن السبتي يخشى قدوم ابن رشد إلى مراكُش، ويشتهي موته واختفاءَه نهائياً عن الأنظار. فابن رشد وفد لمراكش من قرطبة لمقابلة يعقوب المنصور، بعد أن "تراجع" السلطانُ عن موقفه السابق بخصوص الفلسفة ومحاربتها. ولم يكن نزول ابن رشد بالقرب من إقامة أبي العبّاس السبتي، كما يبدو، وليدَ المصادفة. فقاضي قرطبة وفقيهها كما يقول الصومعي وفَدَ إلى مراكش بناء على استدعاء من الخليفة، ويتعذّر في هذه الحالة أن يقيم خارج الأماكن المخصصة لكبار الشخصيات ممن يود السلطان لُقياهم؛ بدلالة أن الحرّة، زوجة يعقوب المنصور، هي التي هيّأت للضّيف مبلغاً كبيراً من المال لتلبية احتياجاته في مراكُش، وربما لارضائه والتعويض عليه بعد المحنة. والسّبتي، الذي كان وقتئذٍ رجلَ يعقوب المنصور القوي، وأداته في السيطرة على الرعية وضبطها، لم تفته دلالات هذا الإستدعاء ولا دلالات أن زوجة المنصور هي التي قامت شخصياً بأمر الضيافة، ولا دلالات المبلغ الكبير. هكذا طلب أن يُحمل المبلغُ إلى ابن رشد، وأن يُنْظَرَ ماذا سيفعل. من الممكن أن يكون رسخَ في ذهن الشيخ السّبتي أن ظهور ابن رشد في مراكش إشارةٌ إلى خطر ممكن، ونذيرُ تحول في سياسة السلطان يعقوب المنصور، تقني السلطة المتقلب، الذي لايتورّع عن فعل شئ، أي شيء مهما كان، من أجل سلطته وتعزيزها.
بحسب رواية الصومعي، توتّرُ السّبتي، الذي أخذته الحمى "في تلك الليلة"، وغضبُه، كان السبب المباشر لموت ابن رشد. على غير عادته، لم يحلم الشيخ أبو العباس السبتي بابن رشد، ولم يقل إنه رآه في منامه. كان حكمه قاطعاً وكذلك غضبه: إنه عدو وينبغي أن يموت. قد نتساءل في هذه الحالة، هل استجاب الله لرغبة السبتي، أم أن رغبته هذه وجدت من ينفذها بحق نزيل وحيدٍ في مكمنِ سلطةٍ لا حول له إزاءها؟. ليس لدينا سوى رواية الصومعي. وهذه لا توفّر لنا أدلة كافية عن تلك الليلة التاريخية التي شهدت موت قاضي قرطبة سوى أن الشيخ السبتي أبدى إرادته في موت عدوه الفيلسوف، واكتُشف في الصباح أن الرجل مات. ولكن الصومعي في روايته يحسم القضية من غير تلعثم: إنه انتصارُ المتزّمت على الفقيه المنفتح، وهزيمة الفيلسوف العقلاني النهائية أمام المتصوفة.
نعرف أنه في زمن الموحّدين، حيث تعمم التزمت بتشجيعٍ من السلطة السياسية، لم يكن الإغتيالُ والتمثيل بالخصوم السياسيين أو المذهبيين عملةً نادرة. ولكن الصومعي يختزل الأمر بقوله إن الفيلسوف مات لأن الشيخ السبتي أراد ذلك وجسّد إرادته وترجمها بدعاء. غير أن لغته المترددة وحرجه البيّن يترك فراغات كبيرة تحث على المساءلة. ومن البيّن أن اعتدال الراوي، وانفتاحه النسبي، يوفران له فرصة التخفيف من حدة العنف الكامن في الرواية، من ناحية، وإقامة مسافةٍ ضرورية بين هذا العنف الكثيف (ومصادره القريبة من أوساط الشيخ السبتي) ومآلاتها التراجيدية، كما سنرى لاحقاً، من ناحية أخرى.
غير أن الدلالة الأولى لهذه الواقعة التي "سيكتشف" فحواها المثير بعضٌ من معاصرينا اليوم، هي دلالة "انتصار" المتصوف على الفقيه، والتزمّت على النظر العقلي. بحسب الرواية التي سيستند عليها بعضهم اليوم، قضى الشيخ السبتي على الفيلسوف، واستولى على أمكنته جميعها بما في ذلك قبره في مراكش الذي صار، منذ احتلته جثةُ الشيخ السبتي، مزاراً تتبرك منه الناس. في حين تُرك جثمان ابن رشد يرحل بعيداً جداً على ظهر دابة، ومعه أعمالَه كلها، إلى الأندلس. وهذا يعني، بحسب أحد معاصرينا اليوم، أن جثمان الفيلسوف ترُك يسار بعيداً من غير اعتراض، مايدل على ألاّ أمل يرجى فيه نهائياً، ولا بركة مأمولةً في بقائه[2]". وليس من غير دلالة أن قبر ابن رشد المؤقت في مراكش صار، منذ غادره الفيلسوف واحتله الشيخ السبتي، صار ضريحَ وليّ ومزارَ تبرّك، أي دائم. دون أن يغفل عنا أنه يتعذر على قبر الفيلسوف، الشكّاك بالتعريف، أن يغدوَ مزاراً شعبياً يُتقرّب به من الله. لايُزارُ قبر الفيلسوف من أجل التقرّب من كراماته؛ في حين أن النجاح الشعبي للصّوفي مصدره أن هذا الأخير صنعةُ الناس، ونتاجُ متاعبِهم في الحياة ومصاعبِ حلها.
ثم إن الذي رحَّل ابن رشد إلى الأندلس بعد مائة يوم من وفاته هم أهلُه الأقربون. ولا يذكر لنا الصومعي أو غيرُه شيئاً عن مراسم دفن ابن رشد في مراكش. هل عومل من قبل يعقوب المنصور الذي استدعاه معاملةً تليق بواحد من أعيان قرطبة ومن كبار رجال الدولة قضى نحبه في مهمة رسمية؟! أم أن دفنه جرى بصمت ومن غير إعلان؟! في هذه الحالة الأخيرة، سيصبح انتصار السبتي كلياً: الموت المضاعف لابن رشد، موته الفيزيائي، وموته الأكبر كفيلسوف: الجحود والنسيان.
ماذا لو بقي جثمان ابن رشد في قبره الأول في مراكش؟ هل كانت الأمور أخذت مساراً آخر وسلكت سيروراتُ التاريخ أسيقةً مغايرة؟ لا يقاربُ عبد الفتاح كيليطو أو غيره السؤال، ذلك أن "ترحيل" ابن رشد ستكون دلالته الكبرى بحسب كيليطو ترحيلُ الفلسفة نهائياً من جنوب المتوسط إلى غربه، من المغرب إلى أوروبا، حيث سيغدو ابن رشد منذئذ Averoes اللاتيتني وليس قاضي قرطبة الفقيه الأندلسي: "ترحيل جثمان ابن رشد سيكون له، بالنسبة لنا نحن، مدلول دقيق : رفض أرسطو وترحيل الفلسفة إلى اللاتينيين"[3]. بعد كيليطو بحوالي ربع قرن، سيحسم وائل فاروق المسألة بالقول إن ابن رشد يحملُ بالأصل جرثومة عجزه، وأن خياراته الحقيقية هي التي ولّدت هذه الهزيمة التي مازلنا نعيش عقابيلها حتى يومنا هذا. نعم سيكون لهذه الواقعة تأثيرها الحاسم على مصير الفكر وهامشية العقلانية والفلسفة في بلادنا حتى اليوم[4]، بحسب وائل فاروق. وهكذا سندخلُ القرنَ الحادي والعشرين وقد عرفنا، بمعية وائل فاروق، مصدرَ البلاء الفكري الذي نكابدُ وأسّ مشاكلنا المزمنة: قاضي قرطبة أبي الوليد ابن ابن رشد[5].
2
لم يكن الشيخ ابو العباس السبتي المتصوف الوحيد الذي سيُذكر إنه أوقع الهزيمة بقاضي قرطبة أبي الوليد ابن رشد؛ ذلك أن متصوفاً آخر، كان تتلمذ على يد الشيخ السبتي، سيكون له شأنٌ خاصٌ مع ابن رشد وشأن كبير في عالم المسلمين، هو محمد بن علي ابن عربي، الذي سيصبح فيا بعدُ الشيخ محيي الدين ابن عربي.
ولكن بخلاف رواية السّبتي، التي نقلها إلينا الصومعي، سيكون الشيخ محيي الدين ابن عربي هو نفسه الرّاوي الوحيد لواقعة اللقاءِ الوحيد بين الفتى محمد بن علي ابن عربي وقاضي قرطبة أبي الوليد ابن رشد ولكن بعد سنوات كثيرة من اللقاء، ومن رحيل ابن رشد، وبعد عقود طويلة من رحيل الشيخ محيي الدين النهائي عن قرطبة ومراكش، والترحال الدائم في مواضع كثيرة في الشرق.
الملاحظة الأولى التي تثير الإنتباه وربما التساؤل، أن الغائب الأكبر في الروايتين، هو قاضي قرطبة أبو الوليد ابن رشد. فنحن لم نعثر على أية إشارة خُلّفت لنا، من قبله هو شخصياً أو من قبل واحد من تلامذته وأنصاره الكثر، بخصوص اللقائين، أية إشارة على الإطلاق. هكذا لايتبقى لدينا غير رواية المتصوفة عن الفيلسوف، وغير الاكتفاء بهذه الحقيقة التي تحدد الخيارات أمام الباحث.
في الجزء الرابع عشر من الفتح المكي[6]، يُفرد لنا الشيخ محيي الدين ابن عربي تفاصيل تَعَرُّفِه إلى ابن رشد، وخبايا علاقته به: "ولقد دخلت يوماً بقرطبة على قاضيها أبي الوليد ابن رشد؛ وكان يرغب في لقائي لَمّا سمع وبلغه مافتح الله به عليّ في خلوتي؛ فكان يُظهر التعجّب مما سمع"[7]. هكذا يحدد ابن العربي إطار العلاقة وسياقها: فرادة تجربته، وفضول الفيلسوف وربما تشككه ورغبته في معاينة الأمر كما سنرى بعد قليل. ذلك أن "مافتح به الله علي في خلوتي" من كشوفٍ أثارت لدى الفيلسوف شكوكاً وتساؤلات حثته على طلب اللقاء. ولكن الفتى محمد بن علي ابن عربي أظهر بحسب رواية الشيخ محيي ابن عربي، قسوة تجاه ابن رشد يتعذر تبريرها. فالرجل الذي كان، كما يقول الشيخ محيي الدين "من أرباب الفكر والنظر العقلي" وأحد كبار أعيان قرطبة، هو صديق والده الذي بعثه إليه "في حاجة، قصداً منه حتى يجتمع بي. ..وأنا صبيٌ مابَقَلَ وجهي ولا طُرَّ شاربي...فعندما دخلت عليه، قام من مكانه إليّ محبةً وإعظاماً..".
يعرض ابن عربي روايته بعد أن أصبح قطب الصوفية الأكبر الشيخ محيي الدين، وليس الصبي الذي "مابقل" وجهه "ولا طُر"ّ شاربه. ويثبت في روايته أمرين. الأول أنه كان ولج منذئذ عالم المتصوفين المتميزين؛ إذ أنه "دخل خلوته جاهلاً وخرج مثل هذا الخروج" (نفسه). والثاني أن تفوقه لا يتوقف لدى تخوم عالم التصوف والمتصوفين، بل يشمل، فيمن يشمل، فيلسوفاً يشار إليه بالبنان هو أبو الوليد ابن رشد.
ولم يغيّر تعظيم ابن رشد للفتى ابن صديقه من الأمر شيئاً. فقد حكم عليه الشيخ الأكبر بالهزيمة وقرر أنها مستحقة بحسب طبائع الأشياء. فالفتى محمد ابن علي ابن العربي لا يقصرُ "سجاله" مع فيلسوف قرطبة على الأفكار، بل يتخطاها إلى تعمد الإرباك والإغضاب الذي يرشح منه ، ربما، الرغبةُ في الحط من مكانة الفيلسوف صديق والده. هكذا لاحاجة لابن عربي تحثه على أن يشرح لنا لماذا أراد التنغيص على مزاج ابن رشد وإثارة حنقه: "ثم استشعرت بما أفرحه من ذلك، فقلت: لا، فانقبض وتغيّر لونه وشكّ فيما عنده.. فاصفرّ لونُه، وأخذه الأَفْكَل (الرَعْدةُ)، وقعدَ يحوقلُ؛ وعرف ماأشرت إليه..". بل إن قاضي قرطبة سيقوم مع ذلك، بحسب رواية الشيخ ابن عربي الذي يُمعن في الإجهاز على "ضحيته"، بشكر الله على أنه تعرّف على "حالة أثبتناها، وما رأينا لها أرباباً. فالحمد لله الذي أنا في زمانٍ فيه واحدٌ من أربابها (أي المعرفة الصوفية وهو الفتى محمد بن علي ابن عربي)، الفاتحين مغالقَ أبوابها، والحمد لله الذي خصني برؤيته".
ثمة لقاء ثان مليء بالرمزية كان يمكن أن يحدث رواه ابن عربي في نفس المكان من (الفتوحات المكية). فقد "أردت الاجتماع به مرة ثانية؛ (ولكن) .. ضُربَ بيني وبينه حجابٌ رقيقٌ؛ أنظرُ إليه منه ولا يُبصِرُني ولا يعرف مكاني، وقد شُغلَ بنفسه عني. فقلت: إنه غيرُ مُرادٍ لما نحنُ عليه، فما اجتمعت به"[8]
هنا يلتقي الشيخ محيي الدين ابن عربي بشيخه السابق أبو العبّاس السّبتي في أن كليهما يائس من "حالة" الفيلسوف ابن رشد: إنه "غير مُرادٍ لما نحن عليه". وهي "حالة" قد تضع قسوةَ محيي الدين ابن عربي حيالَ الفيلسوف ابن رشد في دائرة الضوء، وتفسّر، في الوقت نفسه، لماذا يتكشّف أسلوب ابن عربي هنا عن عنف قد لا نجده في نصوصه الأخرى كلها. هل يجوز اللجوء إلى التحليل الفرويدي بشأن هذا العنف الإستثنائي الذي تفيضُ به رواية الشيخ محيي الدين ابن عربي، بخصوص ابن رشد؟.هل هي تعبيرٌ عن الرغبة بتصفية الحساب مع الأب عبر وبواسطة "قتل" صديق الأب؟ لن أستطرد. أكتفي هنا بالإشارة وبالمساءلة.
حكمُ الشيخِ أبي العبّاس السّبتي بإعدامِ قاضي قرطبة ابي الوليد ابن رشد له مايبرره إذن، فهو "حالة" ميئوس منها تماماً في زمن السبتي. وما رفضُ الفتى ابن عربي تكرار اللقاء سوى رجعٌ لهذا الحكم، أولاً، ويفهمُ في سياق تلك الحقبة التي سيطر فيها "المتصوفة" وبالأصح التزمت على البلاد ثانياً. يصف ابن خلدون الحال بلغته التي لاتحتمل الَّلْبس: "ثم إن المغرب والأندلس، لما ركدت ريحٌ العمران بهما، وتناقصت العلوم بتناقصه، اضمحل ذلك (العلوم العقلية) إلاّ قليلا"[9]
بخلاف الصومعي الذي يُخفف من شحنة العنف الماثلة في موقف الشيخ السّبتي، لا يُظهر الشيخ ابن عربي أية رغبة في التخفيف من الحكم على ابن رشد وإدانته. إنه يأسٌ مطلقٌ من هذا الذي ما رأى في الفتى محمد بن علي ابن عربي سوى حالةً يعرفها نظرياً ولم يُعاينها ويسبرها بعد: "هذه حالةٌ أثبتناها وما رأينا لها أرباباً"، ينقل ابن عربي على لسان ابن رشد. هي حالة تثيرُ الفضولَ إذن وينبغي تفحصها ومعاينتها؛ الأمر الذي يقلقُ ابن عربي ويثير حنقه وحكمه النهائي بحقه: إنه "غير مُراد لما نحن عليه".
في الطرف الآخر من الصورة، تبدو استراتيجية ابن رشد بخصوص المتصوفة متسقةً مع معاييرها أي مع العقلانية الرشدية التي تسائل الأشياء والأمور وتضعها قيد المعاينة. وإذ لا يُفَكُ اللّغزُ من غير معاينة، تتضح رغبة ابن رشد القوية في ان يسبرَ الشيخ السّبتي ويدرسه ويعرف سرّه: روى أبو القاسم عبد الرحمن الخزرجي أن ابن رشد كلفه بمعاينة الشيخ أبي العباس السّبتي، وقال له: " إذا رأيت أبا العباس السّبتي بمراكش فانظر مذهبه وأعلِمْني به. قال فقدمت مراكش فذهبت إلى أبي العباس السّبتي ولازمتُه أياماً حتى حقَّقْتُ مذهبَه ومنحاه .. فذهبت راجعاً إلى قرطبة فدخلت على ابن رشد فأعلَمْتُه بذلك. قال لي هذا رجلٌ مذهبه أن الوجود ينفعلُ بالجُود، وهو مذهبُ فُلانٍ من قدماءِ الفلاسفة"[10].
والواقع أن مايكتبه ابن عربي نفسه وما يكتبه معاصرونا اليومَ بخصوصه و/أو نقلاً عنه من المسافات مايحثّ على وضعه في دائرة الضوء والمساءلة بالضرورة. ففي هذا النص الإستثنائي، يتجاوز الشيخ محيي الدين ابن عربي شطحاته، وإن كان يؤكد عليها. ذلك أنه لايرضى بالتوقف لدى تخوم القضية، وهي هنا "حالة" ابن رشد، بل يتوخى أن يذهب أبعد بكثير من ذلك: إلى الطرف الأقصى فيها. يتضح ذلك بإحالة سريعة من قبله إلى "هذا القطب الإمام، أعني مُدَاوي الكُلُوم"؛ وهي إحالة تنقل السجالَ مع ابن رشد إلى مستوى استراتيجي آخر يتعدى شخصَ الفتى محمد بن علي ابن عربي، ليغدو سجالاً بين (القطب الإمام) أي (مداوي الكُلوم) ومعه الصوفية كلهم، من جهة، وقاضي قرطبة وما يمثله، في الجهة المقابلة؛ إنها بالأصح قضية التعارض بين التصوّف والفلسفة. ومن المستحسن، من قبيل التوضيح، أن نعرف شيئاً عن (مداوي الكلوم) الذي وقف بمواجهة ابن رشد إلى جانب ابن عربي: شخص "إلهي عنده السر الذي يطلبونه والعلم الذي يريدون تحصيله، وإقامة الحق فيهم، قطباً يدور عليه فلكهم يقالُ له مداوي الكلوم. فانتشر عنه فيهم من العلم والحِكَمِ والأسرار مالايحصره كتاب"[11] ؛ ومداوي الكلوم هو الإمام الذي هو "من أعلم الناس بهذا النشء الطبيعي؛ وما للعالم العلوي فيه من الآثار المودعة في أنوار الكواكب"[12]. وهو الإمام الذي سيعود، كما بشّر أصحابه، بعد غيبته: "إُذن لي في الرحيل..فاثبتوا على كلامي ..فلا تبرحوا حتى آتيكم بعد هذه المدة...[13]"
ثم هنالك لقاءٌ ثالث، بين ابن عربي وابن رشد، لنقل إنه اللقاء الأكبر والأكثر إثارة من حيث حظي، في الآونة الأخيرة على وجه الخصوص، بالكثير من التعليق والتحليل، وبالضرورة، الإهتمام. حدث "اللقاء" في العام 595 هـ لحظة نقل رفات ابن رشد من قبره "الموقت" في مراكش إلى قبره الدائم في قرطبة. "ولما جُعِلَ التابوتُ الذي فيه جسدُه على الدّابة، جُعلتْ تواليفُه تُعادِلُه من الجانب الآخر. وأنا واقفٌ ومعي الأديب أبو الحسن محمد بن جُبَيْر، كاتبُ السيد أبي سعيد، وصاحبي أبو الحكم عمرو بن السَرّاج، الناسِخ. فالتفت أبو الحكم إلينا وقال: ألا تنظرون إلى من يُعادلُ الإمامَ ابن رشد في مركوبه؟ هذا الإمامُ وهذه أعماله، يعني تواليفُه . فقال له ابن جُبَير: يا ولدي، نعم مانظرت، لا فُضَّ فوك. فقيدتها عندي موعظةً وتذكرة. .. وقلنا في ذلك:
هذا الإمامُ وهذه أعمالُهُ ياليْتَ شِعْري هلْ أتتْ آمالًهُ
لكن "آمال" ابن رشد لم تأت بالفعل. ولا آمال ابن عربي بالتأكيد. فما زال الرجلان يُستعادان في الزمان والمكان، ولكن من غير أن يتمكّنا من الفعل. لا يفهم اللقاء الثالث هذا من غير اللقاء الأول، من ناحية، ومن غير صلة هذا اللقاء بالشيخ السّبتي الذي "كان السبب في موت ابن رشد وطرد الفلاسفة من حوزة العصر الموحّدي... هو الذي شيّعه، وهو الذي ورث قبرَه بعد نقل جثمانه من المغرب إلى الأندلس"[14]
لم يقل السبتي إنه رأى ابن رشد ي منامه؛ حكم عليه ببساطة بالموت. وقد قال ابن عربي شيئاً كهذا حين امتُنِع عليه لقاء ابن رشد؛ صار يراقبه دون أن يراه، وفهم الفتى كما يقول أن قاضي قرطبة ميؤوس منه، ولا يُعوَّل عليه.
يصعب تصديق رواية ابن عربي أن الفتى المراهقَ الذي كانه (عمره حوالي 16 سنة) أفحم الفيلسوف الكهل (عمره حوالي 57 سنة)، الذي هو قاضي القضاة الوقور، وأن هذا الأخير كان تواقاً للُقياه وأنه أقرّ له بالتفوق. أرجّحُ أن ابن عربي لايكذب. إنه يروي الواقعة بعد عقود من حدوثها، وبرمزيتها التي يُهيأ للشيخ الأكبر أنها لا يمكن أن تكون إلا كذلك بين إمام العقل وإمام الإشراق. للعقل بحسب المتصوّف حدود لايعرفها الإشراق. وفق المتصوف، يتعذر الوصول إلى الحقيقة من غير التعالي عن المادة والعقل والمحسوس والصعودُ للقيا الإشراق. إنه نوع من الإتصال بالخالق الذي هو الحقيقة. فكل موجود يسترُ في أعماقِه الأُنطولوجية حقيقته الباطنة: هو صورة خارجية ظاهرة يتجلى فيها ومن خلالها الحقُّ غيرُ المرئي. فإذ يسعى المتصوف لمشاهدة الحقيقة التي تشرق خلف الحجاب الذي يسترها، فذلك لأنه، بخلاف الفيلسوف، لا يكتشف الحقيقةَ، بل يعيشُها، يتّصل بها ويندمجُ فيها. هي تشرقُ، فيتلقاها المتصوفُ المتحفّز أبداً لتلقيها ولُقياها. أما الفيلسوفَ فيجهَدُ ويتساءَلُ ويشكُّ ويبحثُ في المنهج قبل أن يبرهنَ، إنْ بَرهن.
ثم إن "تفوق" المراهق الذي سيصبح لاحقاً الشيخ الأكبر يتسق كلية مع روايات المتصوفة الآخرين بخصوص "تفوق" إمامهم أبو العباس السِّبتي على قاضي قرطبة وبالضرورة على العقلانيين جميعهم. فبحسب التادلي الصومعي مؤلف (كتاب المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى)[15]، أن الشيخ السبتي هو من تسبب في موت ابن رشد. فقد دعا عليه بقوله: "اللهم سلط عليه الموت، أو كلام هذا معناه فضربه وجع في تلك الليلة فما أصبح حتى خرجت روحه" .
3
في كتابه (لسان آدم)، ينشر الأستاذ عبد الفتّاح كيليطو في العام 1995 نصاً ريادياً بعنوان (ترحيل ابن رشد)[16]. أقول نصاً ريادياً ليس بسبب لغته الأنيقة، فقط، بل لأنه افتتح بتقديري أو دشّن موجةً جديدة من موجات قراءة ابن رشد المتعاقبة؛ ولأن الفكرةَ المحورية في نصّه ذي الصفحات الخمس هي أن "وفاة ابن رشد تختِم بالنسبة للعرب نهايةَ حقبة ونهاية تاريخ"، وأن ترحيل جثمانه من مراكش إلى قرطبة دلالته "ترحيلُ الفلسفة إلى اللاتينيين" (ص 65). ثم هو نص ريادي كذلك لأنه عبّد الطريق لغيره، كي يجدد اليوم دفنَ ابن رشد، ولكنْ من غير جنازة، ومن غير مراسيم دفن، كما سنتطرّق بعد قليل.
بحسب كيليطو، الذي يبحث عن المدلول المُفارق، لم يكن بمكنة شهود ترحيل جثمان ابن رشد الثلاثة، ابن عربي وصاحبيه ابن جبير وأبو الحكم الناسخ، إدراكَ مغزى ترحيل جثمان ابن رشد بصحبة كتبه، وهو بحسب كيليطو رفضُ الفلسفةِ وترحيلِها إلى الغرب الذي أحسن توظيفها في نهضته القادمة. هكذا يبدو الثلاثة "بمثابة متفرجين، يبعثون على السخرية، على مشهد تغيب عنهم دلالته الحقيقية"، كما يقول.
ولكن عبد الفتّاح كيليطو يكّف مع الأسف عن متابعة مفارقاته وإشاراته الذكية. أُرجّح أنه يعرف أن شهود ترحيل ابن رشد الثلاثة، لم يكونوا شهوداً بالمعنى الدقيق للكلمة. كانوا بمعنى ما شهودَ الشيخ السّبتي على
مصير ذلك الذي أرادوأ ربما أن يموت؛ وشهودَ حملةِ الاضطهاد الشرسة التي كابد ابن رشد وصحبه منها، وكانوا ثلاثتهم شاركوا فيها. فإلى موقف ابن عربي شديد القسوة، فإن ابن جبير كان اسهم بنشاط في الحملة ضد الفيلسوف، ونظم أشعاراً كثيرة بحقه، هذا بعضها:
الآن قد أيقنَ ابنُ رشد أنَّ تواليفَهُ توالِفْ
ياظالماً نفسَهُ تأمّلْ هلْ تجدُ اليومَ من توالفْ؟
وهذا أيضاً:
لم تلزم الرشدَ يا ابنَ رشدٍ لمّا علا في الزمان جدُّكْ
وكنتَ في الدّينِ ذا رياءٍ ما هكذا كان فيه جدّكْ
وأيضاً:
كان ابنُ رشدٍ في مدى غيِّه قد وضعَ الدّينَ بأوضاعِهِ
فالحمدُ لله على أخذه وأخذ من كان من أتباعِهِ
كيف يمكن لمعنى جملة أبي الحكم النّاسخ التي استولت على مشاعر ابن عربي، وحظيت باستحسان ابن جبير، أن يكون غير معنى عبثية حياة الفيلسوف الذي رُحّل، وهزيمته النهائية؛ وغير معنى دفن الفيلسوف الذي يخشون قيامته؟!!!
لكن المثير في الروايات المختلفة كلها هو كما قلنا صمت ابن رشد؛ هو دائماً الحاضر الغائب في كل مايقال أو يروى عنه. لم يخلّف ابن رشد لنا أية إشارة تدل على موقفه مما يدّبرُ بخصوصه. صمتُ ابن رشد كثيف في كلٍ من رواية ابن عربي، ورواية الصومعي؛ حتى في العبارات الغاضبة والمتّهمة التي أطلقها الشيخ السّبتي بحق ابن رشد ونجم عنها تبرير موته، لا يظهر ابن رشد إلا كموضوع، كمُتَلقٍ للحكم القاطع الذي أطلقهُ الشيخُ الصوفي، وقرّر فيه أن على ابن رشد أن يموت؛ وأن يختفي عن الأنظار
4
بخصوص "النكبة الشنعاء في عام ثلاثةٍ وتسعين وخمس مئة"، يخبرنا المراكُشي (أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك الأنصاري المراكشي)؛ في )الذيلُ والتكملةُ لكتابَيْ الموصول والصلة([17]؛ أن أبا الحجاج بن غَمْر، الذي "ألمّ بذكرها في تاريخه" أفاد بأن بعض أهل قرطبة حاولوا تأليب السلطان على ابن رشد: "فانتدب الطالبون لنَعيِ أشياءَ عليه في مصنفاته ... وجُمعتْ في أوراق...ومشى رافعوها إلى حضرة مَرّاكُش سنةَ تسعين"، ولكن من غير جدوى كما يؤكد المراكُشي. "فنكص الطالبون على أعقابهم، وقنعوا من السفر بسرعة إيابهم"[18]. غير أنهم عاودوا الكرة بعد ثلاث سنوات، ونجحوا. لكن المراكُشي يستطردُ بتنبيهنا إلى عنصر خطير قد يفسّر نجاحَ "الطالبين" هذه المرّة بالإيقاع بابن رشد: "يُذكر أن من أسباب نكبته هذه اختصاصه بأبي يحيى أخي المنصور والي قرطبة"، الذي سعى لخلافة أخيه حين مرض المنصور في العام 578 هـ، وانتهى أمرُه إلى القتل. أي إن المراكُشي يرجّح سبباً سياسياً لنكبة ابن رشد. وهو التفسير الأكثر منطقية من بين التفسيرات التي يتداولها البعض، كما يرجح محمد عابد الجابري كذلك؛[19] بدلالة أن ابن رشد ألّف في هذه الفترة كتابَه (الضروري في السياسة) الذي يندد فيه، كما نعرف، بالإستبداد وغير ذلك من القضايا التي لا تُسِرُّ حاكماً على شاكلة الموحدي يعقوب المنصور. ويرجح محمد عابد الجابري أن ابن رشد كتب (الضروري في السياسة)، وهو تلخيص لكتاب أفلاطون الجمهورية، بناءً على طلب من أبي يحيى أخِي المنصور ووالي قرطبة في الوقت نفسه.
وبخلاف مايقوله باحثون كثيرون، من المرجّح أن نكبةَ ابنِ رشدٍ وصحبٍه لم يتسبب بها المتصوفةُ والفقهاءُ المتزمتون، أو أنهم لم يكونوا سببها المباشر؛ نعم، أَوغَرَ أبو العبّاس السَّبْتي وغيره صدرَ السلطان على ابن رشد وصحبه، لكن الذي نَكَبَ (حزبَ) الفلاسفة هو السلطان الموحدي يعقوب المنصور وليس غيره. ونحن نعلم أن يعقوب المنصور كان تقني سلطة بالمعنى المباشر للكلمة. هو رابع الأمراء الموحّدين؛ خلف أباه يوسف سنة 580 هـ/1180 مـ وعمره 32 سنة. قَتَلَ أخاه عمر وعمَه سليمان بن عبد المؤمن صبراً. ثم قتل أخاه أبا يحيى "بمحضر من الناس وأمر بإخراج بقية الأمراء حفاةً عراةَ الرؤوس". ثم إنه بعد قتل أخيه وعمه "أظهر زهداً وخشونة ملبس"؛ وفي أيامه انتشرت كرامات الصالحين والمتبتلين و"عظُمت مكانتُهم". هو الذي استقدم أبا العبّاس السّبتي إلى مراكش؛ وهذا كان، كما يقول التادلي الصومعي، "ربما أمسك بيده سوطاً ويمضي به في الأسواق ويذكّر الناسَ ويضربهم على ترك الصلاة في أوقاتها". وأمر المنصور بإحراق كتب مالك، و"تقدم إلى الناس في ترك الإشتغال بعلم الرأي والخوض في شيء منه، وتوعد على ذلك بالعقوبة الشديدة. وفي حقبة زُهْدِ المنصور حدثت نكبة ابن رشد. وجاء في المنشور الذي صاغَه كاتبُه ابن عياش بخصوص ابن رشد وصحبه وقت محنتهم: "فاحذروا وفقكم الله هذه الشرذمةَ على الإيمان حذرَكم من السموم السارية في الأبدان؛ ومن عُثِر له على كتاب من كتبهم فجزاؤه النارُ التي بها يُعذّب أربابه وإليها يكون مآل مؤلفِه وقارئِه ومآبِه".
والحقيقة أن ابن رشد عايش وكابد في آخريات حياته انتعاشاً ملحوظاً للتزمت والتعصب كان يعقوب المنصور غذّاه وشجّعه. ولكنه ككل مفكر نزيه، لم يتكيف مع الموجة السائدة، التي وظفتها السلطة السياسية وقتئذ لصالحها، وأخضع التصوّفَ والمتصوفة أنفسَهم لمنهجه العقلاني في السّبر والتحليل. وقف من زهدهم موقف الشك، واعتبر أن "الظالم هو الذي يحكم الرعيةَ لمصلحته لا لمصلحتها، وأفظع أنواع الظلم هو ظلم القساوسة". وقد أوردت في فقرة سابقة رواية أبو القاسم عبد الرحمن الخزرجي عن معاينة الشيخ أبي العباس السّبتي بتكليف من ابن رشد.
من الطبيعي ألا ينظر ابن رشد إلى الصوفية التي انتشرت في أيامه بغير الشك والنقد، وأن يطعن في زهدهم وسلوكهم، وألّا يُسلِّمُ بما يرويه المتصوفة وما ينسبونه لأنفسهم من كرامات. فطرُقُ الصوفيةِ في النظر، كما يقول في (كشف مناهج الأدلة في عقائد الملة)، " ليست طُرُقاً نظرية، أعني مركّبة من مقدّمات وأقيسة؛ وإنما يزعُمون أنّ المعرفةَ بالله، وبغيره من الموجودات، شيءٌ يُلقى في النفسِ عند تجريدِها من العوائقِ الشهوانية؛ ونحن نقولُ إن هذه الطريقة، وإن سلّمنا بوجودِها، فإنها ليست عامةً للناس. ولو كانت هذه الطريقة هي المقصودة بالناس، لبطُلَت طريقةُ النظر، ولكان وجوُدها بالناسِ عبثاً، والقرآن كلّه إنما هو دعاءٌ إلى النظر والإعتبار"[20].
وليس من المستغرب في هذه الحال أن تندرج رواية ابن عربي في هذا المناخ الذي يستهدف اقتلاع النظر العقلي، الذي يمثله الفقيه المالكي أبو الوليد ابن رشد.
5
قلنا إن نص عبد الفتّاح كيليطو (ترحيل ابن رشد) ريادي من حيث أنه دشّن موجةً جديدة من موجات أو مراحل قراءات ابن رشد. وهي موجات لايخفى فيها ترابطها بتحوّلات العرب الثقافية والسياسية في التاريخ الحديث، وبنظرتهم إلى أنفسهم، أي هويتهم، وبالضرورة تراثهم.
افتتح كتاب الفرنسي إرنست رينان[21] Averroès et l’Avorroïsme. Essai historique. عصراً جديداً من عصور ابن رشد المديدة. فقد قرأ رينان ابنَ رشد باعتباره Averroès اللاتيني أو المعلق الكبير، واختزله إلى مُلخِّصٍ لأرسطوطاليس والشارح الأمين لأفكاره. وأكد فيه على أمرين سيكررهما كثيرون اليوم كما سنرى. أولاهما أن "العرب لم يصنعوا غير انتحال مجموع الموسوعة اليونانية[22]"، وثانيهما أن الفلسفة بقيت هامشية في ثقافة العرب المسلمين، وأنها تلاشت نهائياً بعد القرن 12 الميلادي، أي بعد موت ابن رشد. ولكن كتاب فرح أنطون (ابن رشد وفلسفته؛ الصادر في الاسكندرية عام 1903)، الذي تبرز فيه بصمات كتاب إرنست رينان بشكل جلي، هو الذي افتتح بتقديري هذه المرحلة الأولى، إن لم يكن هو الذي دشّنها بالفعل.
أكّد فرح أنطون في هذا الكتاب، وخصوصاً في سجاله مع الإمام محمد عبده الذي احتل قسماً كبيراً من صفحات الكتاب المنشور، أكد على الحاجةَ إلى "الفصل بين الدنيا والدين أي الفصل بين السلطة الدينية والسلطة المدنية" من أجل النهضة المرجوة. حدثت النهضة في أوروبا عندما أطلق الأوروبيون "عقول العلماءِ والفلاسفة من قيود الماضي وأعدّوا للعلم ميداناً فسيحاً قُرنَ فيه العلمُ بالعمل فنشأت عنه الاكتشافات والإختراعات.. فكأنه روحُ الحرية بُثَ في العقلِ والعلمِ والعملِ فأحياها معاً"[23]. ثم إن الإعتراض ليس على طبيعة هذا الدّين أو ذاك، بل على الجمع بين الدين والدنيا". وليس من غير دلالة أن فرح أنطون يختم كتابه بقوله "إننا نريد أن نحكّمَ في أمورنا عقولنا لا عقول الذين تقدّمونا. أي إننا لا نصدّق أحداً ولا نبني حكماً على حكم أحدٍ ما لم تظهرَ لنا صحة قوله بالتجربة والإمتحان والمشاهدة والبرهان[24]" .
بخلاف الطيب تيزيني، الذي يحتفي بفرح أنطون، وبابن رشد بطبيعة الحال، ويعتبر اللجوء إليه "أصبح من ضرورات الموقف"[25]، لا يتردد وائل فاروق، الذي يتبنى الفكرة المركزية لعبد الفتاح كيليطو، وكلاهما يستبطنُ فكرة رينان المحورية بخصوص هامشية الفلسفة والعقلانية في الثقافة العربية، ويتبناها، لا يتردد عن التأكيد على أن فرح أنطون كان يبحث عن "أصل" في التراث الإسلامي للحداثة؛ وعن "فقيه يُصدر فتواه بشرعية الحداثة". وقد وجد ضالته في ابن رشد "الذي أصدر فتواه بشرعية النظر العقلي، وما النظر العقليُ إلا جوهر الحداثة المرجوة"[26] .
يتفق وائل فاروق مع طرح عبد الفتّاح كيليطو ونصر حامد أبو زيد وقبلهما بزمن طويل إرنست رينان بخصوص أن فلسفة ابن رشد عرفتْ النسيان والإهمال في جنوبي البحر المتوسط، في حين أن الإهتمام الكثيف بابن رشد في الشمال لم يكن "مقصوداً لذاته. كان قاضي قرطبة "مجرّد وسيط ضمن استمرارية تجربة انسانية حفظ ثمارها الفكرية"[27]. وليس أدلّ على ذلك من أن أغلب الباحثين الأوروبيين الذين درسوا ابن رشد لم يلتفتوا هم أيضاً لحياته كقاضٍ وكقضيةٍ وربما كإنسان، إلا بما يؤكد ويشرح دوره كوسيط. ويتفق وائل فاروق خصوصاً مع نصر حامد أبو زيد في أن المسؤول الأول عن هذه الهامشية "هو ابن رشد نفسه؛ فهو أول مَنْ دفعَ بوجوده كإنسان إلى الهامش". ثم إن وائل فارق لا يتوقف لدى تخوم فكرة أن ابن رشد مسؤولٌ عن هامشيته، بل يذهب أبعد من ذلك إلى القول إن ابن رشد لم يخلّف سيرة شخصية، ليس لأنه اضطُهد، وليس تواضعاً من قبله، بل بما هو موقفٌ فكريٌ وطريقةٌ للنظر إلى الحياة. فأزمة العقل العربي (أضع تعبير العقل العربي بين مزدوجتين) ترجع أولاً إلى "طبيعة اختياره لموضوعه"؛ لاتجد الأزمة أصولها إذن في القمع، ولا في بنية الإجتماع والسلطة السياسية، أو في "غياب العقلانية" كما قيل مؤخراً، وإنما، كما يقول وائل فاروق، "في انقطاع العلاقة بين العقل وموضوعه الحقيقي وهو الواقع الإنساني، أعني الحياة والممارسة الإنسانية التي نلحظ غيابها المخيف في التراث الفلسفي الإسلامي". الفلسفة مُهمّشة لأنها، بحسب وائل فاروق، "خرجت من مجال عملها وهو الحياة الإنسانية التي تركت تماماً للفقهاء الذين لم يفقدوا أبداً سلطتهم على العامة على مدار التاريخ".
6
تبقى نقطة أخيرة سأعرضها عبر ملاحظتين اثنتين بخصوص ما أعتبره دلالات المقاربة الحالية لابن رشد.
أولاهما، أن الرجل ابن رشد يخضع اليوم لعملية جراحية جذرية تحيله إلى مسؤول عن داء وبيلٍ تعاني منه ثقافتنا منذئذ كما يقولون هو داء الإنفصال عن الواقع. غير أن العملية برمتها هي بوضوح عملية دفن جديد للرجل ابن رشد ولكل الثقافة العقلانية التي يمثلها. وإلا مامعنى الإلحاح على استدعاء الصوفي الكبير محيي الدين ابن عربي قبالةَ ابن رشد ؟ أليس من أجل التأكيد على دفن قاضي قرطبة من جديد؟!!!
هي، في نظري، عودة، أو استعادة كثيفة مليئة بالأفخاخ إذن. فالرجل ابن رشد الذي يُستدعى اليوم، في بدايات القرن الحادي والعشرين، ليس هو ابن رشد نفسه الذي استدعاه فرح أنطون في مطلع القرن العشرين أو الطيب تيزيني ومحمد عابد الجابري في أخريات القرن نفسه. هاهنا، يبدو ابن رشد مسؤولاً مسؤولية مباشرة عن نكبته وعن استعصاءاتنا التي نكابد في آن.
لايستنتج وائل فاروق من قول ابن الأبّار أن ابن رشد "تأثلت له عند الملوك وجاهة عظيمة لم يُصرّفها في ترفيع حال، ولا جمع مال، إنما قصرها على مصالح أهل بلده خاصة ومنافع أهل الأندلس عامة"، لايستنتج سوى أن خيار فيلسوف قرطبة هو البعد عن الواقع والغربة عنه؟ وحين يُعبِّر ابن رشد، وفق ابن أبي أُصيبعة، عن خشيته من حظوته لدى السلطان المنصور، ويقول للمهنئين من أصحابه "والله إن هذا ليس مما يُستوجبُ الهناءُ به"[28]، يُستنتج من ذلك أنه ابتعاد عن الحياة والناس، وليس حفظاً للكرامة وتجنباً للصَغار؟!!!.
تتعذر الموافقة على استنتاجات وبالأصح تأكيدات وائل فاروق بخصوص ابن رشد. فالرجل ليس مسؤولاً عن انهياراتنا اليوم، ولا عن انفصالٍ مفترضٍ بين العقل والواقع. ومايقوله ابن الأبار عن تفرغه الكلي للبحث يمكن تفسيره ببساطة على أنه من باب التقريظ. فقد قيل أشياء مثل هذه عن إيمانويل كانط وجديته وصرامته إزاء نفسه؛ وقيل مثلها عن سبينوزا وبرتراند راسل، وهيجيل وماركس. وكنا في جامعة دمشق نقول أشياء قريبة بحق أستاذنا الراحل عبد الكريم اليافي الذي كرّس حياته، كما كنا نقول، للعلم.
غير أننا نشهد اليوم موجةً تنزع عن ابن رشد تاجَ الحكمة وتزحزحُه عن صدارة مملكة الفكر والمعرفة الفلسفية، وتحشره في عزلةٍ يُزْعَمُ فيها إنها حجبت عنه حقائق الواقع الذي يعيش فيه، وولَّدتْ بالضرورة مأساته. فقد "رفض ابن رشد الانفتاح على فضاء التصوف وعلم الكلام، (وانشغل) بتقريب أرسطو بعيداً عن الإنفتاح عن كل ماحوله من مشاريع فكرية وإيديولوجية قريبة منه"[29]. وأُرجحُ من جهتي أن تبخيس قدر ابن رشد وزعزعة مكانته تتصل بقوة بالمشهد الثقافي اليوم حيث تُبخسُ العقلانيةُ ويُتسيّد مقالُ الهويّة.
ماهو مثير للاستغراب أن الحديث جله يتصل بالرجل ابن رشد، لا بفلسفته أو أفكاره. ومن الملاحظ أن قليلاً من الذين اهتموا به تعاملوا معه من حيث هو فيلسوف؛ وأن قليلين منهم ألقوا نظرة على أعماله وسبَروا فرضياته واستنتاجاته ومنهجيته. في الجامعة التي درَستُ قبل حوالي نصف قرن، تُركَ لابن رشد حيزٌ يخلّفه باهتاً في ناظريك، وشبحاً تتعذّر مقاربته. وأرجّحُ أن ابن رشد يستدعى اليوم لأن مراسيم دفنه لم تكتمل بعد، ولأنّ الحاجةَ لدفنه تزداد حضوراً مع تزايد الإلحاح على اكمال مراسيم هذا الدفن المستعصي على الدفن.
لن يتمكن ابن رشد الذي رسمته ريشة عبد الفتاح كيليطو أولاً، ثم نصرحامد أبو زيد ووائل فاروق فيما بعدُ، تجاوز الإعاقة التي يعاني منها تراثَه لديهم لأنه، كما يقول نصر حامد أبوزيد، امتداد للتراث العقلاني المهمّش في الثقافة الإسلامية، من جهة، وأن هذا التهميشَ حثّه على تقديم تنازلات زادت من هامشيته، من جهة ثانية[30]. ولا يفيد في هذه الحالة قول نصر حامد أبو زيد أننا "بحاجة لاسترداد ابن رشد"[31]؛ إذ كيف يمكن استرداده بعد أن أسهم بكثافة في تأكيد دفنه مع جوقة مُؤبِّنيه؟!!!
كيف يمكن تحميل ابن رشد (أو غيره من السلف) مسؤولية انهياراتنا المعاصرة، أو مايقول به بعضهم (وائل فاروق أو عبد الفتاح كيليطو... إلخ) من فصلٍ ممتد بين العقل والواقع، أي غربة الفكر عن مجتمعه وواقعه؟ بل وكيف يمكن تفسير النكوص المريع عن العقلانية وتسيّد التزمّت ووهن التفكير النقدي الذي نشهدُ اليوم خصوصاً لدى المثقفين الذين كانوا قبل وقت قصير يزعمون الثورة؟ بل وكيف يمكن تفسير استدعاء محيي الدين ابن عربي في مناخ التزمت الثقيل الذي نكابد اليوم؟ لايخلو الأمر من دلالات لامجال لتعقبها هنا. غير أن أطرف ما في هذه التحليلات، إن صحت التسمية، هي أحكامها القاطعة: "تحولت الفلسفة إلى أداة بيد السلطة السياسية ... وهكذا خرجت من مجال عملها وهو الحياة الإنسانية التي تركت تماماً للفقهاء الذين لم يفقدوا سلطتهم على الشارع أو العامة على مدار التاريخ"[32].
وبهذا الخصوص، أَلحظُ في القول إن الفلسفة اختارت العزلة تاركة الميدان مفتوحاً للفقهاء ورجال الدين قراءةً تعسفية للتاريخ، كل تاريخ، وليس تاريخ البلدان العربية فحسب. فحتى وقت قريب جداً، كان رجال الدين في أوروبا هم الذين يتحكمون بكل حياة عامة؛ يقيمون محاكم التفتيش، ويشعلون الحروب الصليبية، ويرقون الكتب والمفكرين إلخ..
بيان الملاحظة الثانية أن استعادة ابن رشد، بالطريقة التي نشهد اليوم، لا توفّر، بظني، معرفةً، كما أنها لا تستند إلى معرفة. وهنا كذلك، لايُستدعى الماضي من حيث هو حوادث سلفت، بل لربطه بالراهن ولتوظيفه في سجالات الحاضر، وعلى الأرجح في انقساماته. وليس استدعاء ابن عربي في هذا السياق ووضعه في مواجهة ابن رشد، كما لاحظنا، بالبعيد عن هذا.
نعلم أن المعرفة هي الفصلُ وتبيان الفروق وإبراز المناطق الرمادية؛ إنها السؤال المنفتح على الأسئلة. وما ألاحظه بكل هذه التحليلات التي تربط بين إخفاقاتنا اليوم وتراثنا الفلسفي هو، في الحقيقة، الغياب المريب لتحليل النظم السياسية والعلاقات الإجتماعية التي تحيط بالفلسفة في الدولة العربية (إن كان يصح الحديث عنها بالمفرد إلا من قبيل المجاز والتقريب). ولا يتسق القول بالغياب المخيف للحياة والممارسة الإنسانية بملاحظة الغياب المريب في هذه الحالة للحياة والممارسة الإنسانية في التحليلات المعاصرة.
ثم إن التأكيد على إعادة قراءة ابن رشد لايستلزم بالضرورة، كما يفعل بعضهم، تبخيس الرجل والحط من مكانته بدعوى أنه كان "يجهل كل شيء عن الأدب اليوناني، فشرع في فهم "فن الشعر" من خلال ما كان يعرفه عن الشعر العربي؛ حيث لم يكن قادراً على تصور شعر آخر. لم يكن لدى الناقل العظيم لفلسفة اليونان إلى الغرب أي فكرة عن التمثيل المسرحي، وهكذا كان شرحه لفن الشعر قائما على سوء تفاهم محزن مضحك (مأساوي كوميدي)[33].
ويتعذر، بهذا الخصوص، ألا نتساءل عن علاقة "تبخيس" مكانة ابن رشد بأزماتنا التي تستعصي مع الزمن من ناحية، وعن عجزنا عن دمقرطة حياتنا العامة السياسية والثقافية والإجتماعية على وجه الخصوص، من ناحية ثانية. وأميلُ إلى التقدير إنه يتعذّر ألاّ نرى في استدعاء ابن عربي اليومَ بصمات عصر يبدو فيه الجيل الحالي من الناس أميل إلى التخلي عن عقلانية كان بشّر هو نفسه بها قبل عقود قليلة مضت، وكان وجد هو نفسه، أيضاً، في فلسفة ابن رشد عقلانية تؤسس لنهضة عربيةٍ رآها على درب التحقق. وليس من غير دلالة أن أكثر من مثقف كان يصنف نفسه على أنه علماني، بدأ يقترح علينا "الصوفية" دواءًا وحلاً "يُنقذنا من الضلال"، أي يُخرجنا بتقديرهم من التطرف، ومن غيره من المتاعب.
ثم إن تحميل ابن رشد وزر النظم السياسية وإخفاقاتها المريعة فيه من التعسّف مايفوق كل حد. إذ منذ متى كانت السياسات والتواريخ تُشرطُ بالنصوص؟ فهل التطرف الإسلامي اليوم مرجعه النصوص أم أن التطرف يبحث كما يجري في كل مكان وزمان في النصوص عمّا يدعمُ مواقفه ويبررها، ويُعيد بالتالي كتابتها كما يشتهي؟ وأُرجح القول إن غياب تحليل النظم السياسية في الدول العربية وبناها التسلطية هو الذي يختفي خلف "إدانة" ابن رشد وزعزعة مكانته. إنه الذي لايقالُ
نكبة ابن رشد وصحبه كانت سياسية لا إيديولوجية، دافعها الحقيقي أن السلطان، الذي قتل أخويه وعمه من أجل تعزيز سلطته، نَكَبَ "حزبَ النظرِ العقلي" من أجل تلميع صورته التي عمّمها في أخريات حياته كزاهد يتحلى بكرامات الأولياء. ونحن نعلم اليوم أن التيار "الصوفي" كان شرع في عهد المنصور وابن رشد يحتل "مكان الفقيه في البيئة الثقافية للغرب الاسلامي"[34].
بيد أن مشكلاتنا تكمن، كما نعرف، في الإستبداد الذي يولد الإنسداد الذي يولد التطرف، وليس في النصوص؛ فهذه متوفرة ومتداولة بيننا منذ قرون؛ وهي كانت موجودة في مطالع القرن العشرين حين أخذ العرب، مع جل العالم غير الأوروبي، في تبني قيم الغرب والتطلع للالتحاق بالحداثة والمعايير الأوروبية. وجد التطرفُ طريقَه إلينا قبل أن تعززَه النصوصُ أو، بالأصح، قبل أن توفّرَ له النصوصُ التعزيزَ الذي يبحث عنه. ويتهيأُ لي أن المشكلة في جلّ الدراسات والكتب التي دُبجت في المرحلة التي أسميها بـمرحلة (الموقف من التراث) تكمن في أنها تستند إلى إجماعٍ بيانه مركزية الفكر ودوره في النهضة، باعتبار أن الإخفاقات المعيشة والمتلاحقة سببها فكري وليس سياسي بمعنى السلطة السياسية.
ثم إن الراحل محمد عابد الجابري الذي ألح طويلاً على إثبات تفوق المغرب العربي بالعقلانية، والفلسفة، وجد في ابن رشد ضالته التي اتكأ عليها، ولكن من غير جدوى. فقد وقع في براثن فرضيات رينان من حيث لا يريد. فلا يمكن التأكيد على صحة "نصف" النظرية، ورفضها كلها في الوقت نفسه.
*****
ليس التاريخُ كلَّ ما مضى، وهو ليس محض حوادث تتعاقب فصولاً وبدايات. هو في مبناه مفتاحٌ لفكّ طلاسم الحاضر، وبالأصح لقراءة ما استغلق من وقائع الراهن واستعصى على السّبر. ثم إن العبور بالمعرفة من الماضي إلى الحاضر (وفي الحقيقة للمستقبل لأن الحاضرَ كما نعرف رجراجٌ عابرٌ نحو الآتي) يفصح دائماً عن حاجة صريحة للتواؤم مع حاضرٍ لم يصبحْ حاضراً، ولطيّ صفحة ماضٍ لم يمضِ بعد. التاريخ هو قراءةٌ أو ذاكرةٌ تنتقي مايُعزّزُ صورتَها كما تراها في مرآة ذاتها، أي هُويتها في الحاضر.
البحثُ في "التاريخ" أو في "التراث" عما يُسوّغ المواقف الحالية ليس بالأمر المستجد أو النادر. نجد هذا في كل مكان وزمان. نجده لدى الفرنسيين والروس وغيرهم، ونجده لدينا منذ الثمانينات من القرن الماضي على الخصوص حين انبرى كثيرون للبحث في التراث عن "مواقف" تبرر اتجاهاتهم الفكرية وميولهم السياسية الحالية، وإخفاقاتهم. وماالأمر هنا بغريب. فالقولُ إن الماضي يتلبس بتلابيب الحاضر ويتشبث بأزمنته ليس جديداً لا على العرب، ولا على غيرهم. غير أنه قولٌ يلبّي، على الأرجح، طلباً لمواجهة أزمات الواقع وبالأصح للعجز عن هذه المواجهة. وليس أدل على ذلك من أن كثيراً من النصوص استُعيدتْ لأنها تُعزّز سياسات ومواقفَ جرى إقرارُها واعتمادُها وليس قبل ذلك. نجد هذا على سبيل المثال، حين استُدعيت نصوص ابن حزم الأندلسي (384- 456هـ/ 994-1064) التي يقول فيها بجواز ثورة الجائع، لتبرير ما سُمي بالخيار الاشتراكي في الجزائر. هاهنا لا يلبي الحاضرُ الماضي، وهو ليس استمراراً له بالتأكيد؛ واستُدعي نصّ ابن حزم، بل وابن حزم نفسه، لأنه بالضبط يعزّز الخيارَ بعد أن جرى اعتماده. نجده كذلك في تحوير النصوص أو في تفسيرها. ولا يشكل اختزال ابن رشد إلى شارح لأرسطو استثناءً على هذا.
الفصلُ بين الوهم والحقيقةِ تبقى اليومَ، كما كانت منذ القدم، وظيفةُ العقلِ وإذن المعرفةِ، وأساسُها المساءلةُ الفلسفية. وحين أقول الوهمَ، فذلك لأن التوهُّم هو الدّاءُ الذي يجعلنا نرى ولا نرى.
د.محمد حافظ يعقوب
[1] أحمد التادلي الصومعي؛ كتابُ المعزى في مناقب الشيخ أبي يعزى؛ تحقيق على الجاوي. منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية. أكادير. 1996 )ص 232-233)
[2] محمد صلاح بوشتلّه؛ عن علاقة المتصوّف بالفيلسوف؛ ابن عربي مشيعاً ابن رشد. مجلة تبيّن؛ العدد 21/ 1977 ص 45-62. (ص 51)
عبد الفتاح كيليطو؛ ترحيل ابن رشد؛ في: لسان آدم. دار توبقال. الدار البيضاء. 1995 .( ص 64).[3]
[4] وائل فاروق؛ استعادة ابن رشد وتكريس العققل السلفي؛ مجلة الكلمة. العدد 138. أكتوبر 2018 (النص منشور في موقع المجلة الإلكتروني. لا صفحات مرقمة)
[5] وكان الراحل نصر حامد أبو زيد في نص ربما يعود إلى العام 2000 أكد على أن ابن رشد يمثل ثقافة الهامش؛ وأنه بين المركز (الذي يمثله أبو حامد الغزالي) والهامش "دار صراعٌ انتهى بطرد الهامش خارج الحدود حيث وجد مناخاً قابلاً له. وفي ذلك المناخ صار ابن رشد يعرف بـ Averroès أي صار غربياً. (ص 22). ثم إن ابن رشد في محاولته " تجاوز الهامش للإقتراب من المركز، دفعته إلى تقديم تنازلات أو ترضيات زادت من هامشيته.." (ص 27).
نصر حامد أبو زيد؛: الخطاب والتأويل. الفصل 1: مركزية الغزالي وهامشية ابن رشد. المركز الثقافي العربي. ط 3. 2008
[6] محيي الدين ابن عربي؛ الفتوحات المكية. تحقيق وتقديم د. عثمان يحيى؛ تصدير ومراجعة د. ابراهيم مدكور. الهيئة المصرية العامة للكتاب. القاهرة 1985؛ المجلد 2 (ص 373-372)
ابن عربي؛ المصدر نفسه؛ (ص 372). [7]
[9] عبد الرحمن ابن خلدون؛ المقدمة. ؛ الباب 6. الفصل 19
التادلي الصومعي؛ المرجع نفسه. ص 232 [10]
[13] ابن عربي؛ نفسه. ص 371
. [14] محمد صلاح بو شتلّه؛ عن علاقة المتصوف بالفيلسوف؛ نفسه (ص 47)
[15] أحمد التادلي الصومعي؛ كتاب المعزى .. نفسه. ص 233
[16] عبد الفتاح كيليطو؛ لسان آدم. ترجمة عبد الكبير الشرقاوي. 1995. دار توبقال. للنشر والتوزيع. الدار البيضاء.(ترحيل ابن رشد ص 63-67)
[17] أبو عبد
الله محمد بن محمد بن عبد الملك الأنصاري المراكشي؛ الذيلُ والتكملةُ لكتابَيْ الموصول والصلة. مجلد 4. دار الغرب الإسلامي. تونس 2012. (ص 22-33)
[18] الأنصاري المراكشي؛ الذيلُ والتكملةُ ...نفسه؛ (ص 26)
[19] محمد عابد الجابري؛ ابن رشد، سيرة وفكر. 1998. بيروت. مركز درراسات الوحدة العربية. (ص 66)
[20]أبو الوليد ابن رشد؛ الكشف عن مناهج الأدّلة في عقائد الملّة؛ تقديم وشرح د. محمد عابد الجابري. بيروت. مركز دراسات الوحدة العربية. 1998. (ص 117)
[21] Ernest Renan ; Averroès et l’Averroïsme. Essaie historique. Paris. 1852 (2eme édition : chez Michel Lévy Frères. Paris 1861)
[22] إرنست رينان؛ ابن رشد والرشدية. نقله إلى العربية عادل زعيتر. عيسى البابي الحلبي وشركاه. القاهرة 1957. ص 10
[23] فرح أنطون؛ ابن رشد وفلسفته. قدّم له طيب تيزيني. 1988. بيروت. دار الفارابي. ص 157
فرح أنطون؛ المرجع نفسه. ص 157[24]
فرح أنطون؛ المرجع السابق. ص 18 (تقديم طيب تيزيني)[25]
[26] وائل فاروق؛ استعادة ابن رشد وتكريس العقل السلفي. المصدر نفسه.
[27] وائل فاروق؛ استعادة ابن رشد وتكريس العقل السلفي. المصدر نفسه.
[28] ابن أبي أصيبعة؛ عيون الأنباء في طبقات الأطباء؛ شرح وتحقيق نزار رضا. دار مكتبة الحياة. بيروت. (لاتاريخ). ص 531
[29] محمد صلاح بو شتلة؛ عن علاقة المتصوف بالفيلسوف. نفسه )ص 61).
[30] نصر حامد أبو زيد؛ الخطاب والتأويل. ص 57
[31] نصر حامد أبوزيد؛ الخطاب والتأويل. نفسه. ص 27
[32] وائل فاروق. استعادة ابن رشد.... نفسه
[33] وائل فاروق، استعادة ابن رشد؛ نفسه. وعبد الفتاح كيليطو، ترحيل ابن رشد؛ نفسه. ص 66
[34] محمد صلاح بو شتلة؛ عن علاقة المتصوف بالفيلسوف. نفسه )ص 47)
____________________________________________________________________
(للاطلاع على الدراسة كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)
---------------------------------------------------------------------------------------
الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2024 / تنفيذ وتطوير شركة SkyIn