قوة اللاعنف: تحليل فكري وشرعي
قوة اللاعنف: تحليل فكري وشرعي
د. محمد خير الوزير
سياسي وكاتب وباحث وأكاديمي سوري، دكتوراه في الشريعة والقانون متخرج في جامعة نوفي بازار-صربيا، وأستاذ مساعد لمادة أصول الفقه في جامعة المدينة العالمية (MEDIU) كولالمبور-ماليزيا
"كلما وجد مجال، أيًا كان حجمه، لاستخدام الأسلحة والقوة البدنية أو القوة الغاشمة، ضَعُفَتْ كثيرًا احتمالية قوة الروح".
مهاتما غاندي.
"لم يعد الخيار اليوم بين العنف واللاعنف. إما اللاعنف أو اللاوجود".
مارتن لوثر كينغ.
"ليس إرث (اللاعنف) إرثًا فرديا، بل هو إرث جماعي لقدر كبير من الناس الذين وقفوا معًا متحدين على إعلان أنهم لن يستسلموا أبدًا لقوى العنصرية وعدم المساواة".
أنجيلا ديفيس.
"يجب نزع الشرعية وتفكيك الكلمات التي تبرّر العنف، وفي نفس الحركة نبتكر ونبتكر الكلمات التي تكرّم اللاعنف".
جان ماري مولر.
مقدمة:
تعد قوة اللاعنف من الأساليب المؤثرة والجوهرية في تحقيق التغيير الاجتماعي والسياسي دون اللجوء إلى استخدام القوة أو العنف. قد عبر عن هذا المفهوم مجموعة من الشخصيات البارزة في التاريخ مثل مهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ وأنجيلا ديفيس وجان ماري مولر وغيرهم؛ الذين شددوا على أهمية اللاعنف كأداة للمقاومة والتحرر من الظلم والاستبداد. في هذا المقال، نستعرض بعض الأفكار ونحلل الأسس الفكرية والشرعية التي تدعم مفهوم اللاعنف وكيفية استخدامه كوسيلة للتغيير الإيجابي في المجتمع.
الجزء الأول: الأسس الفكرية للاعنف
يعتبر مهاتما غاندي ومارتن لوثر كينغ من أبرز الشخصيات التي رسخت مفهوم اللاعنف كأسلوب حياة وكفلسفة للمقاومة. غاندي، في تأكيده على أن استخدام القوة يضعف "قوة الروح"، يشير إلى أن القوة الحقيقية تكمن في الروح وليس في العضلات أو الأسلحة. من جانبه، يحذر مارتن لوثر كينغ من أن الخيار لم يعد بين العنف واللاعنف، بل بين اللاعنف واللاوجود، مشددًا على ضرورة اعتماد اللاعنف كسبيل للبقاء والتقدم الإنساني.
أنجيلا ديفيس تعتبر اللاعنف إرثًا جماعيًا وليس فرديًا، مؤكدةً على قوته في توحيد الناس ضد العنصرية وعدم المساواة. بينما يشدد جان ماري مولر، من خلال قاموسه، على أهمية نزع الشرعية عن الكلمات التي تبرر العنف وإبداع كلمات تكرم اللاعنف، مؤكدًا على الحاجة إلى إعادة صياغة لغتنا وفكرنا لتشمل مفاهيم اللاعنف بشكل أساسي.
حيث يقول: -نقلا عن كتاب "أطلس اللاعنف" للدكتور هيثم مناع-:
«يجب نزع الشرعية وتفكيك الكلمات التي تبرّر العنف، وفي نفس الحركة نبتكر ونبتكر الكلمات التي تكرّم اللاعنف». ويقول د. هيثم مناع معلقا على هذه العبارة: "قاموس جان مولر لتعلم التسمية والقول والكتابة والحوار والتساؤل والعقل والتفكير، يجعل من الممكن التحدث عن اللاعنف في أي محفل جامعيّ أو شعبيّ. إنّه أكثر من مجرد عمل «على» اللاعنف، إنما يتناوله كلغة تعبير عن ثقافة مجتمع ما. وبما أن لغتنا باتت متعينةً إلى حد كبير بأيديولوجيا العنف السائدة، فإننا لم نتعلم النطق بلغة اللاعنف. تعوزنا الكلمات للتفكر في اللاعنف وقوله؛ إذ إن إدراكنا الكلمات يتم عبر الموشور المشوه لأيديولوجيا العنف. لكننا حين نضعها من جديد أمام مرآة فلسفة اللاعنف، نجدها تتخذ مغزى آخر. علينا مطاردة الكلمات المزيفة التي اقتحمت لغتنا على غير علم منا وإخراجها من مكامنها، فهي التي تسببت بعدم اتساق خطابنا. علينا أن نجتهد لفضح المسلمات الفلسفية المختبئة في الكلمات التي نستعملها عادة والتي تكون بنيان فكرنا رغمًا عنا. علينا نزع الشرعية عن الكلمات التي تسوّغ العنف وتفكيك بناها، وفي الآن نفسه، ابتكار الكلمات التي تشرف اللاعنف وإبداعها. إنّ إيجاد الكلمات الصحيحة لتسمية العنف يعني سلفًا الفكاك من قبضته؛ وبالمثل، فإن إيجاد الكلمات الصحيحة لتسمية اللاعنف يعني سلفًا إفساح المجال لوجوده. وعلى هذا العمل المزدوج في التسمية عكفت، محررا مفردات هذا القاموس، آملا اكتشاف الكلمات المفاتيح التي تفتح المدخل إلى فهم معمق للاعنف".
الجزء الثاني: الأسس الشرعية للاعنف
من الناحية الشرعية، يتضح دعم اللاعنف في العديد من النصوص الدينية، بما في ذلك القرآن الكريم والسنة النبوية. الآيات القرآنية التي تدعو إلى "ادفع بالتي هي أحسن" وتحث على الصبر والإحسان كوسيلة للتعامل مع العداوة، تشير إلى أولوية اللاعنف في التعاملات الإنسانية. كما أن الأحاديث النبوية تؤكد على فضل الرفق وتحذر من استخدام العنف، مشيرة إلى أن الله يعطي على الرفق ما لا يعطي على العنف.
وقد بيّنت في أطروحتي للدكتوراه المعنونة "قضايا معاصرة في الحرب والقتال؛ حكمها وتوصيفها الفقهي"
يقول الله تبارك وتعالى في كتابه الكريم: ((ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم وما يلقاها إلا الذين صبروا وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم))
«أنَّ النبي -صلى الله عليه وسلم- قد ذم وحذر من استعمال العنف واللجوء إليه، وذلك بقوله -صلى الله عليه وسلم- "إِنَّ اللَّهَ رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفقَ، وَيُعْطِي على الرِّفق ما لا يُعطي عَلى العُنفِ، وَما لا يُعْطِي عَلى مَا سِوَاهُ."» رواه مسلم في صحيحه.
وكذا بينت في موضع أخر وذلك في أطروحتي للماجستير "العهد المكّـــــي (مشاهد إيمانيَّة ودُروسٌ تَربَويَّة ومَعَالِمُ مَنهَجِيَّة)": نقلًا عن الشيخ عبد الله العلايلي بتصرف من كتابه "مشاهد وقصص من أيام النبوة" ما يلي:
«فالنبي -صلى الله عليه وسلم- جاء بالإحسان مبدأً على شتى وجوهه ومن أقطاره، ليطفئ نار الحرب في السلم وفي الصراع العاتي بين الحق والباطل، ليَرُدَّ ذئاب البشر إلى الذئاب بتمزيق أقنعتهم في سلم الإنسان.
وبهذا كان النبي -صلى الله عليه وسلم- أول من حارب الحرب وألغى مشروعيتها، وأعلن حرمة الإنسان أيًّا كان.
إن الحرب شذوذ في طبيعة الإنسان يصيبها بالانتكاس، والنبي -صلى الله عليه وسلم- نصير الإنسانية، يكره ما هو من الحرب ولو بمنزلة الاسم لأنه جاء ليقيم الإنسان على قاعدة الإحسان.
إن الحرب هو العدوان طمعًا وعتوًا واضطهادًا، وهو رجوع إلى الحيوانية الضارية التي تستضيق، على رحابة الوجود، بغير ذاتها فتستجيب إلى العدوان وتنازع الآمنين على بقائهم. وأما نحن فإننا نكافح هذا العدوان لنخلص الإنسانية من أدران الضراوة الباغية، فلسنا نحارب منازعةً على البقاء، بل تعميمًا لحرية البقاء وهذا ليس حربًا، بل نضالٌ ضد الحرب، وإن النضال من أجل حقوق الإنسان ودونها إحسان»
وَما الحَربُ إِلّا ما عَلِمتُم وَذُقتُمُ |
وَما هُوَ عَنها بِالحَديثِ المُرَجَّمِ |
مَتى تَبعَثوها تَبعَثوها ذَميمَةً |
وَتَضرَ إِذا ضَرَّيتُموها فَتَضرَمِ |
فَتَعرُكُّمُ عَركَ الرَحى بِثِفالِها |
وَتَلقَح كِشافاً ثُمَّ تَحمِل فَتُتئِمِ |
فَتُنتَج لَكُم غِلمانَ أَشأَمَ كُلُّهُم |
كَأَحمَرِ عادٍ ثُمَّ تُرضِع فَتَفطِمِ |
فَتُغلِل لَكُم ما لا تُغِلُّ لِأَهلِها |
قُرىً بِالعِراقِ مِن قَفيزٍ وَدِرهَمِ |
الجزء الثالث: النظم الاستبدادية واللاعنف
تلجأ الأنظمة الاستبدادية إلى العنف بغطاء الشرعية القانونية التي يستند إليها.
إن العنف السياسي غير قادر على إحداث نظام مستقر وهو أحد علامات عصرنا الأشد باعثًا على القلق والأشد تأثيرا على صياغة عقد اجتماعي جديد يؤسس لدولة المواطنة والقانون والمساواة.
هنا يجب الإشارة إلى معادلة مهمة جدًا: ((مجتمع مدني قوي = دولة قوية)).
يقول أرسطو: "المجتمعات الإنسانية مجتمعات سياسية بالضرورة".
والأهم في هذه المجتمعات هي الإرادة الفردية والتي من خلالها يتحد الأفراد لبناء قوة اللاعنف.
وكذا الديمقراطية أيضًا هي ثقافة قبل أن تكون اتجاهًا سياسيًا تتبناه الدول كنظام حكم.
وبموجبهما يتعين علينا إعادة صياغة العقد الاجتماعي والاستعداد والقابلية للتعايش بين مختلف الأطياف السياسية والإثنية والدينية.
وفي ظل حكم النظم الحالية الاستبدادية تكون الاستجابة الحرجة للشعوب مع هذه الأنظمة مترددة بين موقفين:
- الخضوع، والاستكانة، والطاعة.
- المجابهة وتحويل الخوف إلى قوة اللاعنف وموقف المقاومة المدنية السلمية لإحداث التغيير المنشود.
الجزء الرابع: التطبيقات المعاصرة للاعنف
في السياق المعاصر، يظل اللاعنف أداة قوية لمواجهة الظلم والاستبداد. يوضح العمل النضالي للشخصيات مثل جوديث بتلر، والمفاهيم النقدية لحنة أرندت حول العنف والسياسة، أهمية اللاعنف كوسيلة لإحداث التغيير الاجتماعي والسياسي. إعادة هيكلة الأجهزة الأمنية والقضائية، ونشر ثقافة الحوار واللاعنف، تعد من الخطوات العملية لتعزيز مفهوم اللاعنف في المجتمع.
ويجدر الإشارة هنا نقل ما قالته الفيلسوفة الأمريكية من أصل ألماني حنة أرندت في كتابها "في العنف" بأنه، أي العنف، "يتعارض جوهريًا مع السياسة ويعمل على إقصائها وتغيبها، ويرتبط بأفعال غير سياسية في عمقها كالتطويع الاجتماعي والضبط، ولا يمثل إلا مسلكًا من المسالك التي تلجأ إليها السلطة عندما تكون مهددة". وهي بذلك تقر به كأحد الأدوات السياسية للسلطة القائمة، وما يمثله ذلك من جدل حول موقف القانون من العنف، وكذلك موقف الشرائع الدينية منه. فالقانون هدفه تحديد طبيعة السلطة وهوية الشعب وتحديد القيم السياسية والعنف الشرعي الذي يجوز للدولة اللجوء إليه إذا اضطرت. فالقانون ينظم مجال الحرية ويقيد اللجوء إلى العنف بشروط متعددة وبالتالي فالعنف لا يمثل ظاهرةً يستحيل التحكم فيها وضبطها لأن الأفعال السياسية الحق لا تحتاج إلى تبرير أما العنف فيستوجب ذلك.
وأحب أن أؤكد أنه لا يولد المرء عنيفًا إنما يتحول إلى ذلك من خلال عدة عوامل أولها أسرة وصولًا إلى النظام الحاكم.
تقول جوديث بَتلر في كتابها "قوة اللاعنف"، بترجمة الصديقة العزيزة نور حريري.
"لكن التصرف كأبوين صالحين تجاه الآخرين قد يكون طريقة للتعامل مع إحباطات الماضي ومعاناته. وتظلماتنا من والدينا بسبب الإحباط الذي سبباه لنا، ومشاعر الكراهية والنقمة التي نشأت فينا، ومرة أخرى مشاعر الذنب واليأس التي نشأت من الكراهية والنقمة نتيجة الأذى التي ألحقناه بوالدينا الذين أحبانا -نستطيع أن نبطل ذلك كله من خلال استعادة الماضي في الهوام اللاواعي- (إزالة بعض أسباب الكراهية) من خلال أداء دور الأبوين المحبَّين والأطفال المحبِّين في الوقت نفسه".
القوة ليست غاية إنما وسيلة وبدون القانون تتحول إلى غاية.
خاتمة:
نؤكد هذه المقالة البحثية القصيرة على أن قوة اللاعنف ليست مجرد استراتيجية نضالية، بل هي فلسفة حياة تقوم على الإيمان بالإنسانية والعدالة. من خلال الأسس الفكرية والشرعية، يظهر أن اللاعنف يمثل الطريق الأمثل لتحقيق المساواة والعدالة في المجتمعات. فاللاعنف هو الخيار الحاسم لإسقاط الاستبداد. إن التزام المجتمعات بمبادئ اللاعنف يعد خطوة ضرورية نحو بناء عالم أكثر عدلاً وسلامًا