المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
في مناهضة العنصرية: تفكيك الركائز التاريخية والجغرافية لخطر يتعاظم

في مناهضة العنصرية: تفكيك الركائز التاريخية والجغرافية لخطر يتعاظم

في مناهضة العنصرية: تفكيك الركائز التاريخية والجغرافية لخطر يتعاظم

لم نأتِ للحياة أشرارًا، شيءٌ ما فُعل.

مقالة للدكتور محمد خير الوزير نشرت نشر على موقع كركدن بتاريخ ٢٧ تموز ٢٠٢٤

 

تمهيد:

العنصرية هي بمثابة مخزنٍ من الأسلحة تمنح الحق للبعض في استخدامها ذريعةً لتبرير أفعالهم، وآخرين تسلّحهم دون امتلاك معداتٍ حقيقية، فيغدو الأسود مجرمًا وإن لم يرتكب ما يخالف القانون، والعرب والمسلمون إرهابيين يجب محاربتهم، واللاتين مغتصبين وقتلة يجب الحدّ من دمجهم مع المجتمع "المثالي"، وما إلى ذلك. وهذه كلّها متلازماتٌ مألوفة وردت على ألسنة كبار المسؤولين والقادة الأمريكيين عبر التاريخ وآخرهم الرئيس دونالد ترامب. ولكن ما هي أفضل طريقةٍ للتخلص من شبح العنصرية؟ وهل يعقل أنّ البعض يمكن أن يكونوا عنصريين دون أن يعلموا؟!!! وهل يمكن للسود والأقليات أن يكونوا عنصريين أيضاً؟!!! لا شك أنها أسئلة عديدةٌ تثار في كلّ مرة تقرع العنصرية أجراسها، فتكثر الشكوك والتساؤلات عن سبب التمييز ضد فئةٍ دون غيرها وتزداد جهود البحث عن سبب المشكلة والحلول المحتملة.

لا حياد في العنصرية: «حرية، مساواة، إخاء» لكل طبقة اجتماعية

عند الحديث عن العنصرية يجب التأكد من عدم وجود منطقةٍ حياديةٍ في الموضوع، إما أن يكون أحدهم عنصريًا أو مناهضًا للعنصرية، ليس هناك حلٌّ وسط؛ حيث لا وجود لشخصٍ يمكن وصفه بغير العنصري، ذلك لأن الأخير يميل غالباً للإيمان بوجود هرميةٍ عرقيةٍ تلقي باللوم على سمات فئةٍ معينةٍ من الناس دون غيرها فتصبح من وجهة نظره المسؤول الأول عن كلّ ما تواجهه من مشكلات، دون النظر لأيّ دورٍ قد يلعبه القانون والسياسات التمييزية في معاناة هذه الفئة، وهي سمةٌ مشتركةٌ مع العنصريين. 

فهؤلاء الذين يصفون أنفسهم بغير العنصريين يمكن أن يوجدوا داخل العرق نفسه -الأسود مثلاً- ويمكن أن يكونوا من البيض أيضًا. فهم يؤمنون بضرورة العمل على تطوير إحدى فئات الجماعات العرقية لتصل إلى المستوى الثقافي والسلوكي المناسب والذي يسمح لها بالاندماج بالتساوي مع بقية فئات المجتمع الأكثر تطورًا.  حيث إن الاختلاف الوحيد بينها وبين العنصرية البحتة هو أن الأخيرة تعتقد أن لا سبيل للفئة الدونية بالوصول إلى مستواها مهما بذلت من جهدٍ، مع وجوب فصلها وعزلها. 

ومن هنا فإن اللغة المستخدمة في هذا الصدد ذات أهميةٍ كبيرة، نظرًا للدور الذي تلعبه في تحييد وخدمة السياسات العنصرية. عندما يواجهون بتصريحاتٍ وسياساتٍ كانوا قد دعوا إليها يميلون إلى النكران، في حين أنهم يؤمنون بأيديولوجياتٍ لا يمكن وصفها إلا بالعنصرية البحتة. ومثالٌ على ذلك، تصريحات الرئيس ترامب التي لازمت ترشّحه للرئاسة الأمريكية والتي وعد فيها بحظر دخول المسلمين إلى الولايات المتحدة، ومطالبته بمليارات الدولارات لبناء جدارٍ حدودي مع المكسيكيين المغتصبين والقتلة -على حد قوله- ووصف نقاده من السود بالأغبياء. ولكن عند سؤاله عنها فإنه يقوم بتفنيد أية اتهاماتٍ بالعنصرية. 

وبالتأكيد فإنّ ترامب ليس وحيدًا فهو يتحدث لجمهورٍ ناخب يؤمن بهذه الصور النمطية ويؤيد هذه الرسائل العنصرية، ومن المؤكد أيضاً أنّ البعض يعي حجم تداعيات هذه اللغة على الفئات المذكورة لكنّ المصالح السياسية بلا شكٍّ تعلو كلّ شيء. فهذه المصالح موجودةٌ منذ تأسيس الولايات المتحدة وظهرت جلياً في عصر تجارة الرقيق واستغلال الأفارقة في خدمة وتحقيق مصالح الرجل الأبيض بأبشع الأثمان. لذلك فإن الخطوة الأولى لمناهضة العنصرية هي الإيمان التامّ بأنّ جميع فئات المجتمع متساوية بغضّ النظر عن أية اختلافات.

 

العنصرية: ليست فقط ضد السود وأمريكا ليست وحدها

كشفت سلسلة من الاعتداءات وقعت في الفترة الأخيرة في تركيا عن تبلور نزعة عنصرية ضد العرب على وجه التحديد، ورغم أنه قد يقع مثلها الآلاف في أنحاء العالم يوميًا، لكن وقوعها في عالم مسلم وضد عرب ومسلمين، رغم أن على رأس الحكومة رجل مسلم يفجرّ تساؤلات عما إذا كان القوميون المتطرفون في تركيا نجحوا في تعبئة الشارع التركي ضد كل ما هو عربي، ويحمل في طياته غض طرف من حكومة الرئيس رجب طيب أردوغان لأن أولئك المتطرفون جزء من تحالفه الذي ساعده في الدورتين الأخيرتين في الانتخابات للاستمرار في الحكم، 2019 و2024؟.

ورغم محاولة الباحث الدكتور عصام عبد الشافي في مقال له في الجزيرة نت، تبرير التقصير للرئيس أردوغان وحكومته من خلال سوق 11 عشر سببًا للعنصرية في تركيا، غير أنه لم يجد بدًا من تحميله جزءًا من المسؤولية، خاصة في ظل الاعتداءات الأخيرة على السوريين التي جرت في مدن مثل قيصري، وقونية، وغازي عنتاب، وكلها مدن تعدّ خزانات انتخابية لحزب العدالة والتنمية الحاكم.

وما يزيد أيضًا من مسؤولية حكومة أردوغان ويعزز فرضية سيره على خطا الرئيس ترامب في استغلال العنصرية سياسًا هي أن الانتخابات الرئاسية الأخيرة قبل أقل من عام لم يأخذ مجمل المتطرفين القومين في تركيا سوى 5،1 بالمئة من مجمل المصوتين، رغم وجود معظم الأسباب الـ 11 التي ساقها الدكتور عبد الشافي في المقال المشار إليه كنوع من محاولة التخفيف من مسؤولية الحكومة.

وبحسب مقال نشرته الشرق الأوسط بعد الانتخابات الماضية وحتى قبل الأحداث العنصرية الأخيرة التي تعتبر هي الأشد بعد أحداث أنقرة في حي التنداغ عام 2021، يسود اعتقاد بأن الحكومة التركية لا ترى في الحملات المناهضة للأجانب خطرًا كبيرًا على الأمن القومي، أو تتساهل معها لأن مَن يقومون بها مواطنون أتراك.

وتنقل عن رئيس اتحاد المحامين السوريين الأحرار، الأستاذ غزوان قرنفل، قوله إن اللاجئين هم من يدفعون ثمن أي تقصير في مكافحة العنصرية، ويتم ترحيلهم نتيجة خطأ بسيط يرتكبونه أو حتى من دون أي خطأ، كما أن تحول مشروع «العودة بشكل طوعي» إلى «عمليات ترحيل قسري»، مؤخرًا، ما هو إلا إحدى نتائج حملات التحريض ضد اللاجئين والمهاجرين.

أما مدير مركز دراسات الهجرة بجامعة «كوتش» الدكتور أحمد إيتشدويغو فيقول واضعًا المسؤولية على الحكومة والمعارضة: نحن نرى السوريين الآن ضيوفًا، والحكومة الآن لا تستطيع إدارة الهجرة بشكل جيد، كما أن أحزاب المعارضة، التي تستخدم هذه القضية مادة سياسية، لا يمكنها تقديم استراتيجيات ملموسة للجمهور حول كيفية إدارة المشكلة بشكل أفضل من الحكومة"

ويضيف مؤكدا عملية تسيس العنصرية في تركيا:" قضية الهجرة هي قضية مسيّسة في كل بلد يستقبل المهاجرين، وأن السياسيين الشعبويين يصنعون السياسة على أساس اهتمامات المجتمع".

 

هل توجد فروق بيولوجية في الأعراق؟

إحدى الأفكار الشائعة بين العنصريين هي الاعتقاد بأنّ هناك اختلافًا في القدرات الجسدية بين عرقٍ وآخر، فيخيّل إليهم الجسد الأسود متوحشًا وأكثر عنفًا مقارنةً مع غيره وهو المسؤول عن الجرائم التي ترتكب في حقّ البيض، وبلا شك فإن هذا غير صحيح. 

كما أنّ بعض السود يعتقدون أنّ هناك اختلافاتٍ جينيةً بينهم وبين البيض، وهي الفكرة التي يؤيدها القوميون البيض أيضًا، حيث جاء هذا الاعتقاد نتيجة الأفكار التي غرسها الإعلام والمجتمع في أدمغة الأقليات ليجعل البعض من أبنائها يعتقدون أنّ العنف غريزةٌ يتسمون بها، ولكنّ الحقيقة هي أنّ جميع البشر سواسيةٌ جينياً وبنسبة 99.9%، مع ذلك نجد من يبني الهجوم والتمييز المقيت على نسبة الواحد بالألف. 

وبالاطلاع على الإحصائيات التي تظهر نسب القتل على أيدي الشرطة الأمريكية التي أجرتها صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية، فإنّ السود والذين يشكلون 13% من عدد السكان يحتلون نسبة 26% من عدد الذين قتلوا على أيدي الشرطة الأمريكية في عام 2015م وبنسبة بلغت 21% في عام 2018م، حتى لو لم يكن هؤلاء مسلحين، فهم يشكلون خطرًا بالنسبة لرجال الشرطة الذين جعلهم القوميون البيض ضحايا لتبرير أفعالهم. ولكن السبب الحقيقي الذي يقف خلف ازدياد أعداد الجرائم يعود إلى السياسات الحكومية وارتفاع نسبة البطالة والفقر وليس بالتأكيد العرق. 

كما أنّ التفاوت في المستويات المعيشية يظهر بشكلٍ ملحوظٍ بين البيض والأقليات من السود واللاتين، بالإضافة إلى أنّ القوانين العنصرية التي أدّت إلى إعاقة قدرة الأمريكان الأفارقة على التصويت في الانتخابات الأمريكية، حيث قامت المحكمة العليا في انتخابات عام 2000م بإبطال أصوات 44% من السود في ولاية فلوريدا الأمر الذي أدّى إلى فوز الرئيس جورج بوش بالرئاسة وأخيه جيب، حيث قام الأخير بإلغاء برامج العمل الإيجابي الإصلاحية والتي هدفت لخدمة السود والأقليات قبل الانتخابات مما دفعهم للتصويت ضدّه لكن الأمر انتهى بإزالة أصواتهم.


كيف نفهم امتناعنا عن إدراك الإنسانية الراهنة باعتبارها مجتمعًا واحدًا، وإصرارنا على أن نبني بإسهاب وإطناب صورةً عن إنسانيتين متوازيتين؟ من المؤكد أن لب هذه المسألة يتصل بمصالح جد واضحة يثير مجرد ذكرها كمية من المشاعر المضطربة. لكن المنظومة التي نصوغها جوابًا على صراعاتنا الداخلية الحميمة ترتكز على مجموعة متكاملة من المشاعر النبيلة والمفاهيم المشجِّعة، كانت صيغت في المواثيق والإعلانات الكبرى.

تصف مئات الكتب أو المقالات المنشورة في الغرب مآسي شعوب العالم الثالث الفقيرة، ويبدو حقًّا أن اندفاعات الإشفاق أفضلُ ترياق مضاد لكل إحساس بالذنب قد تحرِّكه فكرة أن تعاسة بعضهم قد يكون لها أدنى علاقة بسعادة بعضهم الآخر [أو أن مصائب قوم عند قوم فوائد]. ذلك أن ثقافتنا تجهِّزنا بمنظومة حماية فعّالة للغاية ضد هجمات الواقع البائس، شبيه بلا شك بذاك الذي كان يسمح فيما مضى لأسياد القصور بالتعاطف مع شقاء الشعوب من دون أدنى شعور بالمسؤولية.

وفي أيامنا هذه، فإن برامج التلفزة الكثيرة التي تعرض مباشرة على الهواء شقاء الآخرين لجمع التبرعات، فضلًا عن أنها لا تساعد في توضيح إدراكنا للأمور، تخلق ستارًا حاجبًا سميكًا من المشاعر المضطربة تؤثر خصوصًا بأن تشوّش كل تفكير في أسباب هذا الوضع، وتقدم في الوقت نفسه تأويلًا جديدًا للوقائع. والدعوة إلى السخاء في العطاء توحي بأن التقصير في المساعدة هو سبب هذه المآسي. ووفقًا لهذا المنطق، ينبغي أن نفترض أن حياة الشعوب غير الأوروبية كانت تمثِّل الدرجة القصوى من التعاسة قبل وصول «الحضارة» أو «المساعدة» الغربية.

 

مبدّل ثنائي بسيط: نحن/الآخرون

 ينطلق بلوندان في كتابه تشريح العنصرية من أن عالمنا الذهني ينبني حول تعارض بين نوعين إنسانيَين، "وتتلخص المسألة كلها في معرفة سر إصرارنا على الجهر عاليًا بأننا ننتمي إلى إنسانية واحدة، وفي القول إن جميع البشر متساوون ويمكنهم التمتع بالحقوق الأساسية نفسها".

يرى المؤلف أن خط الفصل بين الإنسانيتين واضح، ويكفي على سبيل المثال المقارنة بين قدَرَي اثنين من البشر ولدا على الحدود بين الشمال والجنوب؛ "فالمواطن الأميركي، بفعل مولده على أرض مباركة، يفخر بحمل جواز سفر أميركي، مع كل ما يحمله الأمر من امتيازات، في حين أن المواطن المكسيكي، المولود في الشارع المحاذي في القرية العالمية، سيجد نفسه محصورًا إلى الأبد ضمن حدود مكانةٍ من الدرجة الثانية".

يشير بلوندان أن بنية الكتب المدرسية في مقاطعة كيبيك الكندية تنطلق من الفصل بين النوعين الإنسانيين: الإنسانية التاريخية (نحن) والإنسانية الجغرافية (الآخرون).

ومن هنا فإن بلوندان يعتبر العنصرية من أصل النسيج الفلسفي لدى الغرب الذي ينطلق من انسانيتين لا من إنسانية واحدة كما بين أعلاه، ويقول في هذا الصدد إن الخطابات المعاصرة عن البدائيين وإقصاءهم المنهجي عن الحياة الإنسانية الحقيقية لا يبقيان محصورين في الكتب المدرسية أو في القصص الخيالية، بل إن تلك الخطابات تشكل نسيج الفلسفة الغربية ذاته، كما تُدرّس على مختلف المستويات ويجري تعميمها ونشرها عبر المطبوعات الكثيرة.

 

العنصريّة هي: الاعتقاد بدونيّة الآخر لأسباب/ محدّدات قدَريّة:

⁠‫ينفي هذا التّعريف أن يكون الشّعور بالتّفوّق وحده مصدرًا للعنصريّة، إذ الإحساس بالتّفوّق وحده لا يعني ازدراء الآخر بالضّرورة، فالشّعوران ليسا متلازمين، وإنما أصل العنصريّة هو الإيمان بأن قيمة الآخر قيمة متدنّية، وربّما هبط هذا الإيمان إلى مستوى «شعور»، لكنّه يتضمّن حكمًا بالضرورة، وهذا الحكم مبنيّ على محدّدات الهويّة الّتي لا يمكن التحكّم بها، وإنّما يولد بها الإنسان، كالعِرق والجنسيّة واللون والنّسَب والدّين، وحتّى إن استطاع تغيير بعضها، فإنّ هذا التّغيير يظلّ هامشيًّا، وكثيرًا ما يجري التّعامل معه وفق حالته الأصليّة، لا الّتي صار إليها باختياره الشّخصيّ، أمّا اللون والعرق، فهما محدّدان قدريّان تمامًا وغير قابلين للتّغيير.

⁠‫وهكذا، تنبني العنصريّة على مستويين؛ داخليّ عبر الإيمان أو الشّعور، وفعليّ من خلال الممارسة. ويمكن حصر أشكال الممارسات العنصريّة بالآتي:

‫1. الرّمز/التّرميز.

‫2. الإيماءة.

‫3. اللفظ.

‫4. الفعل/العنف.

 

غير البيض يمكن أن يكونوا عنصريين:

كان الناشط الأمريكي من أصلٍ أفريقي مالكولم إكس يؤمن بأنّ الشرّ يتجسد في وجهٍ أبيض، وهي صورةٌ مشابهةٌ لما يؤمن به العنصريون البيض عن السود، حيث جاء هذا الاعتقاد نتيجة مقتل والده على أيدي البيض العنصريين عندما كان صغيرًا، فاعتنق أفكار حركة "أمة الإسلام" بقيادة إليجا محمد، وهي الحركة التي دعت بدورها إلى أسطورة أن العرق الأبيض وجد من أجل تعكير صفو حياة الأسود المسالم، وبعد أدائه لفريضة الحج في مكة، عاد مالكوم باسمٍ جديد وهو مالك الشباز نابذًا كلّ ما دعت إليه الحركة المناهضة للبيض. 

أدرك مالكوم إكس أن الطريقة الوحيدة لمناهضة العنصرية لا تكمن في معاداة عرقٍ بأكمله، فهناك بيضٌ يحاربون العنصرية أيضاً، وآخرون يتعرضون لها، وقسمٌ آخر يقع ضحية السلطة العنصرية والتي تحاول باستمرار أن تقنع أتباعها بأنّ المساواة مع السود تؤثر على حقوقهم في حين أنّ المستفيد الوحيد من ذلك هو السلطة الحاكمة وطبقة ال ٠.١%. فمثلاً، السياسات الاقتصادية التي يدعو إليها ترامب تصبّ في مصلحة طبقة الأثرياء البيض في حين يدفع الثمن أتباعه من البيض العنصريين الأقلّ حظاً وبقية فئات المجتمع الامريكي. 

وبلا شك فإن مناهضة العنصرية وكلّ ما تتطلبه من وعيٍّ تحتاج للتفريق بين البيض كعرق مختلف وبين العنصريين البيض وقيادتهم الحاكمة وسياساتها، فلا يستوي القول أنّ كلّ أبيضٍ عنصري، وأنّ غير البيض هم ضحايا الظلم والاضطهاد، وإن تفاوتت نسب الظلم لترتفع عند أصحاب البشرة الغامقة أكثر. 

القوميون البيض يعادون قوانين حماية المناخ على الرغم من أنّ البيض يعيشون على نفس الكوكب ويتأثرون بالتلوث الذي يتأثر به السود، كما أنّهم يعارضون برنامج الرعاية الصحية الذي أطلقه الرئيس أوباما في حين أن 43% من البيض استفادوا منه، ويؤيدون أدولف هتلر على الرغم من أنه دمّر حياة أكثر من 40 مليون شخصٍ أبيضٍ في أوروبا. وكلّ هذا يشير إلى أنّ الهدف من العنصرية هو خدمة الرجل الأبيض الثري، حتى لو جاء ذلك على حساب أبناء عرقه.

 

العنصرية الطبقية:

ومن أشكال العنصرية أيضاً التمييز الطبقي المرتبط بالانتماء العرقي والذي يجعل من طبقةٍ معينةٍ تبدو مثالاً للفقر والجريمة وأعمال العنف مما يستدعي فرض قوانين تحدّ من اندماجها مع بقية فئات المجتمع وتوسّعها بدلاً من تقديم برامج إصلاحيةٍ ومعوناتٍ تخفّف من الفوارق الاقتصادية وتقتلع المشاكل من جذورها. هذا النموذج يظهر جليًا في مجتمعات الغيتو -الأحياء الفقيرة التي يقطنها السود- حيث ينظر إليها كمجتمعاتٍ موبوءةٍ بالجريمة متدنية القيمة، ويعتقد بعض علماء الأنثروبولوجيا بأن للفقراء الملونين تصرفاتٍ وسلوكياتٍ تمنعهم من الخروج من دائرة الفقر. 

ومن هنا فإن عالم الأنثروبولوجيا أوسكار لويس وأمثاله يستدعون ما يسمى بأفكار النخبة بلوم الفقراء على الفقر، وفي نفس الوقت يصفون الملونين بأنّهم السبب في الظروف الاجتماعية والاقتصادية التي يعانون منها وبالتالي تتقاطع الأفكار العنصرية والنخبوية معاً لتنتج ما يسمى بـ العنصرية الطبقية

إن "ثقافة الفقر" وهو المصطلح الذي قدّمه أوسكار لويس في عام 1959م ما يزال مستخدمًا حتى وقتنا هذا، فالفقراء لا يعملون ولا يرغبون في العمل ولا يقدّرون قيمة العمل؛ فهم المسؤولون عن فقرهم، وكلّ هذا يجري في الدائرة العنصرية التي تحاصر الأشخاص ذوي السلطة المحدودة ومن لا سلطة لهم بإلقاء الأسباب عليهم وليس على ممارسات الطبقة الحاكمة ورأسماليتها، وهي المستفيد الأول من إلغاء برامج الرعاية الاجتماعية للفقراء وتخفيض الضرائب على الأغنياء، وغيرها من الإجراءات التي تحافظ على الثروات في أيدي نسبةٍ ضئيلة من المجتمع.

"أن تكون مناهضاً للعنصرية هو خيارٌ ثوريٌ في وجه هذا التاريخ، ويتطلب إعادة توجيهٍ جذريٍّ لوعينا."

 

الخاتمة:

إنّ العنصرية كلية الوجود في المجتمعات، ومحاربتها تتطلب وعيًا ذاتيًا من قبل الفئات الممارس ضدّها الاضطهاد كي لا تقع فريسة الأفكار العنصرية وتعزز من ديمومتها. فحتى يكون الشخص مناهضاً للعنصرية يجب أن يؤمن بأنّ جميع البشر سواسيةٌ كأسنان المشط ومهما اختلفت ألوانهم، وقدراتهم الجسديّة، ولهجاتهم، ومستوياتهم الاجتماعية والاقتصادية، وبغضّ النظر عن أصلهم، لأنّ هذا الوعي يسمح له برؤية الجذور الحقيقية للمشكلة دون الوقوع في فخّ إلقاء اللوم على الأشخاص وتجاهل الدور الذي تمارسه السلطة الحاكمة وطبقة الأثرياء في محاولة تعزيز الأفكار العنصرية في عقول أتباعهم من أجل الحفاظ على مصالحها.

لا تنسوا أن أصل الإنسان واحد، وأن المليارات الثمانية ونيف من البشر التي تؤلِّف الإنسانية اليوم هم أخوة متساوون كأسنان المشط...


المصادر والمراجع:

546.85 كيلوبايت

تابعنا على الفيسبوك

القائمة البريدية


تابعنا على تويتر

جميع الحقوق محفوطة للمؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2024