جريمة زولينغن: انعكاسات مؤلمة على الأمن والتعايش في ألمانيا
جريمة زولينغن: انعكاسات مؤلمة على الأمن والتعايش في ألمانيا
د. علاء الدين آل رشي
كاتب ألماني من أصول سورية، رئيس المركز التعليمي لحقوق الإنسان.
مساء يوم الجمعة، 23 أغسطس 2024، كانت مدينة زولينغن الألمانية تحتفل بذكرى مرور 650 سنة على تأسيسها. الأضواء تملأ ساحة "فرونهوف"، والأصوات تعلو بالضحكات والأغاني، والأمل يملأ القلوب. فجأة، تحول المشهد البهيج إلى كابوس مرعب، ففي لحظة واحدة، انقلبت الأجواء من الفرح إلى الحزن، ومن الأمل إلى الخوف.
هجوم عنيف بالسكاكين أسفر عن مقتل ثلاثة أشخاص ووقوع ثمانية آخرين بجروح خطيرة، وأصيب غيرهم بآلام عميقة، ليست في أجسادهم، بل في أرواحهم أيضًا. صرخات الألم والخوف ملأت المكان، والدموع انهمرت من عيون الحاضرين. كانت تلك ليلة دامية مظلمة، ليس لغياب الشمس، بل لسواد قلب البعض ولسعة الحزن الذي خيم على قلوب الناس. لم تكن تلك الليلة مجرد ذكرى لتأسيس المدينة، بل أصبحت محطة للألم والفقدان ومدعاة للدموع التي لم تجف، وللقلوب التي لم تلتئم.
بعد فترة وجيزة، قام الجاني بتسليم نفسه للسلطات، ليُعرف لاحقًا بأنه لاجئ سوري يُدعى "عيسى"، يبلغ من العمر 26 عامًا، قدم إلى ألمانيا أواخر عام 2022. ومن ثم أعلن تنظيم "داعش" مسؤوليته عن الهجوم، مما زاد من حدة التوترات في البلاد وعزز مخاوف المواطنين تجاه قضايا الأمن والسلامة، وأعاد توجيه الأنظار نحو قضايا الهجرة ولجوء السوريين وأمن المجتمع.
ألقى الحادث بظلاله على النقاشات حول سياسة اللجوء، حيث استغلت بعض الأحزاب اليمينية الجريمة لدعم مواقفها ضد الهجرة، مُطالبةً بإجراءات أشد صرامة تجاه اللاجئين، فيما سعت الأحزاب التقليدية مثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي وحزب الاتحاد الديمقراطي المسيحي إلى تهدئة الأوضاع. وقد جرى التأكيد على ضرورة عدم استخدام هذه الحوادث كذريعة لتعزيز مشاعر الكراهية ضد جميع اللاجئين. وبدلاً من ذلك، يُشدد على أهمية الوحدة الوطنية في مواجهة الإرهاب والأخطار المهددة للسلام.
بينما يُظهر الرأي العام الألماني تباينًا في ردود الفعل، يعاني السوريون المقيمون في ألمانيا من تداعيات تصرفات فردية لا تمثل الثقافة أو المبادئ السورية. أعرب السوريون عن أسفهم لارتباطهم كلاجئين بالحادث، وبيّنوا أن مثل هذه الأحداث تكشف عن عمق الجراح التي عاناها السوريون، فضلاً عن الصراعات التاريخية التي تضرب المنطقة. نظموا مظاهرات حاشدة في ساحة الجريمة متعاطفين مع الضحايا ومستنكرين للمأساة.
ردود الفعل الدولية والمحلية: دعوات للتسامح والوعي
بعد وقوع الحادثة، أبدت شخصيات بارزة تأييدًا قويًا لعدم تبرير العنف تحت أي ظرف.
دولياً:
في أول رد رسمي من الأوساط السورية على أحداث زولينغن، شدد أ. أحمد معاذ الخطيب، أحد أبرز الشخصيات السورية المعارضة، على خطورة الهجوم قائلاً: "تزايد العدوان في العالم، والهجوم على المدنيين أمر غير مقبول بغض النظر عن الأسباب. يجب على المسلمين احترام المجتمعات التي يقيمون فيها والالتزام بالقوانين التي تحافظ على الأمن والاستقرار العام. علينا أن نرفض تحويل المجتمعات الآمنة إلى ساحات للحرب والانتقام والفوضى، ونحن ندين كل الأعمال التي تؤدي إلى ذلك. الفهم الإنساني واحترام أمن الناس هو الطريق إلى العلاقات بين البشر. العالم يحتاج إلى حركة مدنية واسعة لوقف يد الدول التي تخلق الصراعات العسكرية وتشن الحروب."
وختم مشاركته بقوله: "أقدم خالص تعازيّ ومواساتي لجميع ضحايا العنف الوحشي في كل مكان."
في المقابل، أبدى أ.د. علي محيي الدين القره داغي، رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، استنكاره الشديد لهذا العمل الإجرامي، مشيرًا إلى أن "الهندسة الذهنية لبعض الجماعات المتطرفة أدت إلى تجنيد الدين لتحقيق أهدافهم." وأكد أن هذا الاعتداء يتناقض مع القيم الأساسية للإسلام التي تدعو إلى السلام والتسامح، ووصف الحدث بالعمل الإجرامي الذي يعكس التطرف والعنف الذي لا يمت لجوهر الإسلام بصلة. وقد أدان، وبشدة، جميع أشكال الإرهاب والعنف، وعبر عن تعازيه لكل المتضررين. وطالب المجتمع الدولي بالتوحد لمواجهة التحديات التي تواجه الشعب السوري وقال: "إن الإسلام يرفض التطرف ويعلي من قيمة الحياة والعدالة. يجب على الدول أن تتكاتف لوضع حد للأزمة الإنسانية في سوريا وتعزيز جهود الحوار لتحقيق مطالب الشعب السوري."
إلى جانب ذلك، أوضح أ.د. علي الصلابي، الأكاديمي والمؤرخ، وأمين الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، "أن دماء الناس وأعراضهم وأموالهم مصونة، ولا يجوز الاعتداء عليها تحت أي ظرف. أن الإسلام يحرص على قيم الإنسانية ويدعو إلى الرحمة وتقدير الإنسان. وقتل نفس واحدة بلا حق يُعتبر اعتداءً على الإنسانية جمعاء. الإسلام دين يحرص على العدل ويطالب المؤمنين بأن يكونوا شهداء بالحق. يجب على الأفراد التعاون والتحاور وإيجاد قواسم مشتركة تعود بالنفع على البشرية جمعاء."
محليًا:
قام السوريون بشكل عفوي بمظاهرات حاشدة ضد الواقعة ومن نُسب إليها. وكانت أعمق المشاركات ما أعلنه د. صادق الموصللي، رئيس المجلس المركزي للمسلمين في نيدرزاكسن: "أن كلا من المتطرفين الإسلاميين واليمينيين يعملان على تقسيم المجتمع الألماني من خلال العنف. يجب على المجتمع الألماني أن يتصدى لهذا الانقسام وأن يعمل على تعزيز التعايش."
وقد احتفى الموصللي بالتنوع في مجتمعنا في ألمانيا، وأن هذه الميزة تتعرض للاعتداء من قبل إرهابيي تنظيم ما يسمى بالدولة الإسلامية والمتطرفين اليمينيين. هؤلاء المتطرفون لا يمثلون المسلمين، وليسوا بدولة أساسًا. يجب أن يكون ردنا عليهم هو "لا" مدوية لأي انقسام. مجتمعنا قوي بما يكفي لعزل هؤلاء المتطرفين وحرمانهم من الأرض الخصبة.
أما الأصوات من الجالية السورية فقد أكدت أن هذا التصرف لا يمثل الثقافة أو المبادئ السورية، بل يعكس توترات شخصية وتوظيفاً سياسياً. حيث أبدى الكاتب جمال الدين حمي أسفه بقوله: "تلقيتُ بأسفٍ كبيرٍ نبأ إقدام شابٍ سوريٍّ على طعن بعض المدنيين الألمان الأبرياء، مما أفضى إلى إزهاق أرواح بريئة. الإرهاب لا دين له، ومن يسفكون دماء الناس بغير وجه حق يعانون من اضطرابات نفسية وفكر منحرف. الإسلام بريء من إجرام المتطرفين. كنائس المسيحيين في الشرق دليل صارخ على سماحة الإسلام والمسلمين. المتطرفون لا يمثلون المسلمين ولا اللاجئين السوريين، بل يمثلون أنفسهم. شكرًا لألمانيا حكومةً وشعبًا، والخزي والعار للمتطرفين في كل مكان."
كما عبر أ. مجاهد قدو، الناشط في مجال حقوق الإنسان، عن اشمئزازه من تصرفات فردية تمثل نوعًا من غدر المجتمع الذي أسس لهم سبيل حياة كريمة. مبيناً رأيه في تنظيم داعش: "هذا التنظيم ما هو إلا صنيعة أجهزة وأنظمة مخابرات دولية، كما تم صناعة الجماعات المتطرفة من قبله، كتنظيم القاعدة في أفغانستان والشباب المجاهدين في الصومال وغيرهم. شغلهم الشاغل هو تقديم هدايا مجانية لأعداء الإسلام والمسلمين للنيل منهم أينما حلوا وارتحلوا. صحيح أن أعضاؤه ينتسبون إلى الإسلام، ولكن هذه النسخة المشوهة من الإسلام التي تم غسل أدمغة الساذجين والحمقى منهم بها هي نسخة غريبة وبعيدة كل البعد عن عدالة الإسلام وحنيفيته السمحة. أما قادة هذا التنظيم فلا أتورع عن اتهامهم بل الجزم بأنهم موالون لأنظمة وأجهزة المخابرات تلك للإضرار بالإسلام والمسلمين الذين هم أكثر من تضرر من هذا التنظيم الفاحش."
وقد استهجنت أ. سوسن أحمد، عضو الرابطة العربية الكوردية، الحدث بأكمله واستفسرت عن السبب الحقيقي لقيام شاب بالقضاء على مستقبله وتعريض أرواح المدنيين للموت أو الخطر، وعن أي إسلام يتحدث وهل الإسلام ينصر بالسكاكين؟ وما ذنب الشعب الألماني أن يتعرض لهكذا مأساة؟ ثم ختمت مشاركتها بقولها: "لا يوجد دولة عربية وإسلامية استقبلت السوريين كما فعلت ألمانيا، فهل جزاء الإحسان إلا الإحسان؟"
من جانب آخر، استنكر أ. رودي كدرو، عضو في جمعية Damaszener verein e.v، هذه الجريمة، وهو ابن المجتمعات الكردية التي تعرضت لمجازر شنيعة على يد داعش. فقد غلبتني الدمعة وأنا استمع إلى الأخبار عن مذبحة زولينغن. لقد طالت سكين المجرم رقابنا أيضًا، فجريمته ليست مقتصرة على الضحايا الذين ماتوا، بل على الأحياء ونحن منهم. نحن ضد داعش وضد أي تنظيم مجرم، ونحن جزء من هذا المجتمع الذي يؤلمنا ما يؤلمه. ما أرجوه هو ألا نسمع يومًا بأي حادث وقع عليه تنظيم داعش.
أما أ. هالة الرستناوي، بصفتها ناشطة في حقوق الإنسان، فقد تساءلت: "كيف يمكن أن يحمل الإنسان الأفكار المتطرفة التي هي فريسة للأوهام، والتي تضر بالمجتمع بالكامل؟" مشددةً على ضرورة البقاء في منطقة الحوار والسلام وسط هذا العنف.
بينما عبر السيد محمد رجب من رواد الجامع الشامي في مدينة فوبرتال، عن إدانته القاطعة للحدث وأكد على تأثيره السلبي على صورة المجتمع وديانتهم، وأن ترويع الآمنين وقتل المدنيين ليس من قيم الإسلام ولا من خلق المسلمين، وهذه جريمة نكراء بحق الدين الإسلامي والإنسانية بأكملها.
رغم الألم الذي خلفه الهجوم، يظهر أ. عمّار رجب تباب، مدير المجلس الثقافي العربي في دوسلدورف، حرصه على رؤية الأمل في مجتمع يواجه تحديات بهذا الحجم. أشار إلى أنّ المهاجرين السوريين ينقلون الأمل في رحلة بحثهم عن الأمان والاستقرار، ويجب أن تُقدّر جهودهم، وعدم السماح لأن يكونوا ضحايا لفعل فردي. ورغم الضغوط التي تثيرها هذه الأحداث، طرح أ. خالد درويش، المحاضر السابق في الرعاية الصحية وممثل الإدارة الذاتية الديمقراطية لشمال وشرق سوريا حاليًا، وجهة نظره حول ضرورة توسيع ألمانيا لعلاقاتها مع الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، معتبرًا أن التعاون في مكافحة الإرهاب يعد ضروريًا للاستقرار في المنطقة.
تحليل الحادثة: دروس مستفادة وعواقب اجتماعية
تبرز الحادثة الحاجة الملحة للمجتمع الألماني، بما في ذلك اللاجئين والمهاجرين، للتكاتف والعمل سويًا على تعزيز العلاقات وتخفيف التوترات وضرورة بناء إرادة جماعية للتغلب على الصعوبات والتحديات التي تبرز من الأفعال العنيفة، وأن نكون حذرين في ردود أفعالنا، ونتجنب تعميم الأحكام على مجموعات بأكملها بسبب تصرفات فردية. ولا بد من تعزيز الحوار بين الثقافات (تنظيم لقاءات ومناقشات بين الثقافات المختلفة لتقليل سوء الفهم وتعزيز الاحترام المتبادل).
إضافة إلى وضع سياسات فعالة لمكافحة التطرف العنيف (تحسين تدابير التعاون بين ألمانيا والدول الأصلية للاجئين لمراقبة الأنشطة المتطرفة) واعتماد مقاربات شاملة تشمل التوعية والتعليم والعلاقات بين المجتمعات المختلفة، بما يسهم في تقويض العمليات الداعمة للعنف والتطرف.
الجوانب السياسية والاجتماعية:
إن أحداثًا مأساوية كهذه تمثل فرصة للتأمل في الأبعاد الثقافية والاجتماعية والسياسية في ألمانيا. كما تحتاج الحكومة إلى تعزيز السياسات التي تبني التفاهم المتبادل، ودعم برامج التدخل المبكر لمكافحة العنف، مع التركيز على التعليم الفعال والاندماج، ودعم المدارس والمراكز الثقافية التي يمكن أن تلعب دورًا حيويًا في تعزيز قيم التسامح والاحترام (نشر الوعي حول أخطار التطرف والعنف في جميع مستويات التعليم والمجتمعات).
وبالإضافة إلى ذلك، يجب الاستفادة من الحادثة كفرصة لتعزيز الوعي بين فئات المجتمع حول المخاطر التي يمثلها التطرف، وتشجيع الأفراد على التفاعل بشكل إيجابي مع القضايا المحيطة بهم.
يصر السوريون على عدم التعميم في الأحكام وعلى التعامل الجاد والمسؤول مع هذه الحادثة، والذي يمكن أن يجعل المجتمع الألماني نموذجًا يحتذى به في تجاوز الأزمات وبناء مجتمع متماسك قادر على التعايش السلمي.
الهدف نحو مجتمع أكثر تقبلًا وتعايشًا:
يظل من الضروري معالجة الحوادث العنيفة بمسؤولية ووعي، بعيدًا عن تعميم الأحكام على مجموعات معينة بناءً على تصرفات فردية. إن خطر التطرف والعنف لا يجب أن يكون حافزًا لإثارة الكراهية، بل يتطلب دعوة للتفاهم والحوار والعيش في سلام.
إن حادثة زولينغن ليست مجرد حدث محوري يعكس العنف، بل هي دعوة للتأمل والتفكير العميق في كيفية تشكيل مجتمعاتنا بعيدًا عن الكراهية. وعلى المجتمع الدولي أن يتذكر تهديدات النظام السوري لأوروبا، وأن تكون هناك إرادة قوية لبناء حلف دولي لإنهاء مأساة الشعب السوري، وأن يتحد لأجل مستقبل أفضل يتسم بالمحبة والتفاهم، دون أن نحمل وزر أفعال فردية لا تمت بصلة إلى التعاليم والقيم الإنسانية.
تذكرنا أحداث زولينغن بخطورة استغلال الأزمات لتحقيق مكاسب سياسية. من الضروري أن نواجه هذه القضايا بقلب مفتوح وأذهان ناقدة، دون أن نتجاهل البطش الذي تتعرض له المجتمعات واللجوء والسوريين في العالم. يتطلب الأمر تكاتف الجهود من جميع الأطراف لمواجهة ثقافة الكراهية بأساليب شاملة، بعيدًا عن تنميط الجاليات بسبب أفعال فردية. في نهاية المطاف، يبقى الأمل في أن يسود السلام والوئام بين جميع سكان ألمانيا، والاعتراف بأن العنف لا يمكن أن يكون جزءًا من أي فكر أو ثقافة سلمية، وهو ما قاله أ. أحمد معاذ الخطيب: "إن العالم يحتاج إلى حركة مدنية واسعة لوقف يد الدول التي تخلق الصراعات العسكرية، وتشن الحروب، وتتحكم في مصائر الشعوب، وتساعد في دفع المغامرين إلى تصرفات متهورة."
فهل من معالجة للجذر وعدم التلهي بالصورة؟
____________________________________________________________________
(للاطلاع على المقالة كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)
---------------------------------------------------------------------------------------
الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2024