المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
الشرعية الثورية، معناها، مبرراتها، وإشكالياتها .. سوريا نموذجا

الشرعية الثورية، معناها، مبرراتها، وإشكالياتها .. سوريا نموذجا

الشرعية الثورية، معناها، مبرراتها، وإشكالياتها
سوريا نموذجا

إعداد : رسلان عامر

 

ملخص تنفيذي:

هذه الدراسة تناقش بمنهجية تحليلية مصطلح "الشرعية الثورية"، في مفهومه، ومعناه، ومبرراته، ومفاعيله، وظروف وشروط تطبيقه، وضوابطه، وواجبات حائزه، وموجبات فقدانه.

وتركز على أن "الشرعية الثورية" تقوم بشكل جوهري على "شرعية الثورة" نفسها، التي تعني "حق الشعب بالثورة على الحاكم المستبد الجائر الفاسد ونظام حكمه للخلاص منهما وإقامة نظام حكم صالح عادل يضمن الحقوق والحريات والكرامات الإنسانية لمواطنيه".

وهذا يعني أن الشرعية الثورية توجب السلطة الثورية الحائزة بموجبها على صلاحية الحكم المؤقت بعد انتصار الثورة بالالتزام التام بمبادئ وأهداف وقيم الثورة خلال فترة حكمها، وبضرورة تكريس هذه الفترة بشكل رئيس لتفعيل وتطوير قدرة المجتمع على الانتقال إلى نظام حكم ديمقراطي عصري حديث، إضافة إلى القيام بأعباء الحكم الروتينية والعمل على تلبية حاجات الدولة والمجتمع والمواطن الراهنة. 

وتبين هذه الدراسة أن الشرعية الثورية لا تعني حتمية حق الثوار بالحكم بعد انتصار الثورة، ولا أن تتم مكآفـتهم بالسلطة على مجهودهم الثوري، وإنما هي ضرورة واقعية منطقية توجب قيام سلطة ثورية مؤقتة بعد انتصار الثورة لضمان تحقيق غايات الثورة، في وقت لا يكون فيه المجتمع جاهزا بعد للعملية الديمقراطية الرسمية، وبذلك يصبح واجبا على الثوار قيادة بلدهم في عملية انتقالية مؤقتة، تصل به في محصلتها إلى الجاهزية الكافية اللازمة لممارسة الديمقراطية.

 

كلمات مفتاحية:

ثورة، شرعية، شرعية ثورية، حق بالثورة، مرحلة انتقالية، سلطة ثورية، سلطة مؤقتة، حكم مؤقت، حكومة مؤقتة، ثورة سورية، حكومة سورية انتقالية.

 

1- مقدمة:

مع انطلاقة ثورات الربيع العربي، ومن بينها الثورة السورية في عام 2011، وتمكنها من إسقاط العديد من الأنظمة العربية الديكتاتورية، وسعيها بعد تحقيق هذه الانتصارات إلى بناء دول حديثة وأنظمة سياسية عصرية تستجيب لطموحات وأهداف الشعوب التي قامت بهذه الثورات، غدا مصطلح "الشرعية الثورية" من المصطلحات التي يكثر استخدامها ويدور حولها الجدل على الساحات السياسية والثقافية والإعلامية في المنطقة العربية.

وهذا المصطلح، أخذ في الآونة الخيرة زخما جديدا بعد انتصار الثورة السورية وإسقاطها للنظام الأسدي، وهذا يرتبط بشكل رئيس بما قامت به أكثرية الفصائل المسلحة داخل سوريا، في "مؤتمر النصر"، الذي انعقد في دمشق في 30/1/2025، من تفويض للسيد أحمد الشرع برئاسة الجمهورية في المرحلة الانتقالية المؤقتة، وتشكيل حكومة ومجلس تشريعي ودعوة لمؤتمر حوار وطني وإعلان لدستور مؤقت في هذه المرحلة.

وبالطبع أثار هذا التفويض مواقف متباينة بين مؤيد وموافق ومخالف ومعارض، ولاسيما أن التصور الغالب في ما يتعلق بهذه المرحلة كان انعقاد "مؤتمر وطني"، وليس "مؤتمر حوار وطني"، لتكون مهمة هذا "المؤتمر الوطني" هي تكليف هيئة لحكم البلاد خلال الفترة الانتقالية والاتفاق على المبادئ العامة للدستور الدائم في سوريا، وتكليف لجنة دستورية للقيام بمهمة صياغة هذا الدستور، إضافة إلى الإعداد للانتخابات العامة في نهاية هذه المرحلة الانتقالية المؤقتة، بما يرسي في ختامها الأسس التي تقوم عليها الدولة السورية الجديدة.

ولأهمية هذا الأمر، أي "الشرعية الثورية"، سنقوم في هذه الدراسة بمناقشته بشكل مفصّل.

 

2- أسئلة حساسة حول مصطلح "الشرعية الثورية":

كما هو واضح من تركيبه، فمصطلح "الشرعية الثورية"، يتحدث عن شرعية ذات "صفة أو طبيعة ثورية"، أي "مرتبطة جوهريا بثورة"، أو "مستمدة من ثورة أو قائمة عليها".

وهذا بالطبع يطرح أسئلة جوهرية حول "ماهية الثورة؟"، و"حق الشعوب بالثورات"، "وشرعية الثورة" نفسها، و"نوعية الشرعيات"، و"المعنى العملي للشرعية الثورية"، "والأساس أو التبرير المنطقي الذي تقوم عليه الشرعية الثورية"؛ و"من هو، أو من هم الذين ينطبق عليهم هذا المفهوم"، و"كيف تنظم هذه الشرعية العلاقة بينهم؟"، و"ما هي الصلاحيات التي تعطى لهم والالتزامات التي تترتب عليهم بناء عليها؟"، و"ما هي معايير ونواظم ضوابط الشرعية الثورية نفسها"، و"هل، وكيف تسقط الشرعية الثورية عن حائزها؟"، وهلم جرى...

وكل هذه الأسئلة سيتم الخوض فيها والإجابة عنها في الفقرات التالية من هذه الدراسة.

3- ما هي الثورة؟

كما سلف التنويه، فمفهوم "الشرعية الثورية" يرتبط ارتباطا وثيقا بالثورة، ولا قيمة له فعليا إلا بوجود ثورة، وبناء على ذلك، لا يمكن فهم هذا المفهوم بشكل صحيح إلا بوجود فهم صحيح عن لمصطلح "ثورة" نفسه.

فما هي الثورة؟

ككل المصطلحات الأخرى، ولاسيما المرتبطة منها بقضايا كبرى، ومنها "الثورات"، تتعدد مجالات استخدام مصطلح "ثورة"، وتختلف تعاريفه، تبعا للاختلاف بين معرّفيه في طرائق التفكير والمصالح والظروف وسياقات التعريف، وسوا ذلك...

وعلى سبيل المثال، عند استخدام مصطلح "ثورة"، يمكننا الحديث عن أشكال مختلفة من الثورات، منها مثلا الثورات السياسية الاجتماعية مثل الثورتين الفرنسية والروسية، وعن ثورات تحرر وطني مثل الثورة الجزائرية؛ أو يمكننا الحديث عن ثورات بمعنى التغيرات الجذرية العميقة والواسعة التي تحدث في أحد ميادين الحياة البشرية، مثل "الثورة العلمية"، "الثورة الصناعية"، "الثورة الزراعية"، "الثورة الجنسية"، "الثورة الرقمية"، بل ويمكن الحديث أيضا حتى عن "ثورة موضة" في قطاع الألبسة والأزياء، وهلم جرى...

ولكن غالبا، ما يرتبط مفهوم "الثورة" بالحركات الاجتماعية السياسية الجماهيرية الواسعة، التي تسعى بطرق سلمية أو عنفية لإحداث تغييرات جوهرية في البنية السياسية الاجتماعية الاقتصادية في مجتمعاتها.

وبهذا الخصوص  يقول د. الهادي العامر ود. بن خيرة أحمد ود.بن عمار مصطفى: «توقف العقل الجمعي العربي عند التعريف الشائع لهذا المصطلح الذي يرى بأن الثورة عبارة عن حركة؛ قد تكون سياسية أو اجتماعية أو اقتصادية، أو تمزج بين هذا كله، ترتبط بثلة من الأفراد الذين يثورون ضد وضع معين قصدَ إحداث تغيير، أو مطالبة بحقوق، أو لإبداء رأي معارض لقوانين أو قرارات لا تعجب المقدمين على هذا الفعل. ويتخذ هذا المفهوم تمظهرات متنوعة منها: الخروج، والفتنة، والحراك، والانقلاب، والانتفاضة، والعصيان المدني والاعتصامات.. فهو خروج من وضع إلى وضع مغاير يناقض الوضع السابق.»([1]).

أما أ.د. أحمد مختار فيقول حول الثورة في "معجم اللغة العربية المعاصرة" أنّ "ثار عليه" تعني تمرد عليه وأعلن الثورة والعصيان، أو ثار على النظام أو التعسف أو الظلم أو الفساد؛ وأن الثورة هي «اندفاع عنيف من قبل جماهير الشعب نحو تغيير الأوضاع السياسة والاجتماعية تغييرا أساسيا»؛ أو هي «تحول أو تغيير أساسي في جانب من جوانب الحياة الاجتماعية أو الفكرية» كالعلم والصناعة والتكنولوجيا والزراعة، وغيرها([2]).

وبدوره، يقول المعجم الوسيط الذي يصدره مجمع اللغة العربية: «الثورة: تغيير أساسي في الأوضاع السياسية والاجتماعية يقوم به الشعب في دولة ما»([3]).

فيما يقول المفكر سلامة موسى في كتابه "كتاب الثورات" الصادر في طبعته الأولى عام 1954: «السمة العامة للثورات الأوربية التي انتهت بإيجاد المجتمع الأوروبي الحاضر، هي زيادة الحرية، بإلغاء القيود السابقة، والاعتراف بالحقوق الجديدة. وجميع الثورات - ليس في أوروبا وحدها، بل في جميع القارات الأخرى- تجري على أسلوب لا يتغير، هو اضطهاد سابق يجمد ويتعنت ولا يقبل المفاوضة، ثم انفجار، ثم تغيير يؤدي إلى محو هذا الاضطهاد»([4]).

ويقول ألكسندر مارسافيلسكي (Aleksandar Marsavelski)، الأستاذ المساعد وزميل الأبحاث في كلية الحقوق في جامعة زغرب في كرواتيا، في بحثه المعنون بـ "جريمة الإرهاب وحق الثورة في القانون الدولي" المنشور بالإنكليزية: «إذا نظرنا إلى الوراء في التاريخ، فإن حق الثورة قد ظهر في وقت واحد، في كل من التقاليد القانونية الغربية والشرقية. وقد ساهمت مدارس القانون الطبيعي والعقد الاجتماعي بشكل كبير في تأكيد حق الثورة في القانون الدولي، بينما تطورت بشكل مستقل في القانون الصيني والإسلامي. وقد أدى التأثير القوي لهذه التقاليد القانونية الرئيسة في العالم إلى الاعتراف الصريح أو الضمني بهذا الحق في القوانين الدستورية في جميع أنحاء العالم. لقد تطور حق الثورة إلى مبدأ عام من مبادئ القانون، باعتباره حقًا أصيلًا للشعب في طرد حكامه، أو تغيير نظام حكمه، أو إجراء إصلاحات جذرية في نظام حكومته أو مؤسساته، بالقوة أو الانتفاضة العامة، عندما تثبت الأساليب القانونية والدستورية لإجراء مثل هذه التغييرات عدم كفايتها أو يتم إعاقتها بحيث لا تكون متاحة»([5]).

فيما تقول "الموسوعة الفلسفية" المعرّبة عن الروسية: «الثورة الاجتماعية هي نقطة في الحياة الاجتماعية تدل على الإطاحة بما عفى عليه الزمن وإقامة نظام اجتماعي تقدمي جديد»([6]).

ويقول قاموس أوكسفورد المختصر، الإنكليزي- الإنكليزي، عن الثورة أنها: «تغيير كامل؛ انقلاب رأسًا على عقب؛ انقلاب كبير في الظروف (الثورة الصناعية)؛ إعادة الهيكلة الأساسية  بشكل خاص؛ العمل القسري من قبل الأمة وما إلى ذلك لتنصيب حاكم جديد أو تأسيس نظام حكم جديد»([7]).

وكما نرى في هذه التعريفات، فالمعنى الأكثر شيوعا لمصطلح "ثورة" يدل على أنها حراك جماهيري، سلمي أو عنفي، تثور فيه الجماهير على نظام جائر يسود تحت نير حكمه الظلم والعسف والفساد، وتسعى فيه هذه الجماهير إلى تغيير الأوضاع السياسية والاجتماعية تغييرا جوهريا، واستبدال الحاكم ونظام حكمه الظالمين الفاسدين، أو المتخلـّفين، بنظام اجتماعي- سياسي جديد صالح متقدم.

وبهذا المعنى سيتم لاحقا في هذه الدراسة التعامل مع مصطلح "ثورة"، وبه، أي بهذا المعنى بالذات، سيتم ربط مفهوم "الشرعية الثورية".

 

4- شرعية الثورة وعلاقتها بالشرعية الثورية:

ما لا شك فيه أن طرح سؤال "الشرعية الثورية" يدفعنا إلى السؤال عن "شرعية الثورة" نفسها، فهل الثورة، التي يقوم بها الشعب بهدف تغيير الحاكم والنظام الحاكم وتغيير البنية الاجتماعية والسياسية القائمة، هي بحد ذاتها فعل شرعي؟ وإن كان الجواب بالإيجاب فما هو أساس هذه الشرعية؟!

 عن هذا السؤال يجيب بالإيجاب الباحثان الروسيان في ميدان الأبحاث الاجتماعية ف.أ. غلوخيخ (V. A. Glukhikh) وس. م. إليسييف (S. M. Eliseev)، فيقولان في مقالة لهما بعنوان "الشرعية والسلطة والثورة"، منشورة على مجلة "ديسكورس" (الخطاب) الروسية في شهر أيار/ مايو 2016: «أصبحت الثورات في العصر الحديث مرادفًا للطريقة المشروعة للإطاحة بالسلطة الحالية من قبل الشعب؛ وإن كان قد تم في السياسة في العصور التاريخية السابقة رفض حق الشعب في أعمال التمرد والانتفاض، فإن السياسة الحديثة تعترف بحق الشعب في الثورة؛ ودون الاعتراف بهذا الحق، لا تـُحرم الثورة من الدليل على طبيعية طبيعتها فحسب، بل وتحرم أيضًا من الثقة في مؤسسات السلطات التي تنشأ خلال عملية القيام بها.... وفي جوهرها، تتضمن أية ثورة عمليات التفويض بالإطاحة بنظام سياسي معين وشرعنة وإقرار نظام جديد»([8]).

كلام مماثل نجده عند أ. د. محمد باميه (Mohammed Bamyeh) أستاذ علم الاجتماع بجامعة بيتسبرغ، الذي يقول: «الثورة تستمد شرعيتها من نفسها وليس من أي قانون وضعي. الثورة هي حالة فوق دستورية وفوق قانونية ولا تخضع لأحكام القضاء» ([9]).

وبدورها تقول "موسوعة ويكيبيديا" في نسختها الإنكليزية في مطلع مدخل "الحق بالثورة" (Right of revolution): «في الفلسفة السياسية، حق الثورة أو حق التمرد هو حق أو واجب الشعب في "تغيير أو إلغاء" الحكومة التي تعمل ضد مصالحه المشتركة أو تهدد سلامته دون سبب مبرر. وقد تم استخدام الإيمان بهذا الحق، عبر التاريخ بشكل أو بآخر، لتبرير ثورات مختلفة، بما في ذلك الثورة الأمريكية، والثورة الفرنسية، والثورة الروسية، والثورة الإيرانية والثورة السورية.»، وفي صفحتها التي تتحدث عن هذا الموضوع تدعم ويكيبيديا كلامها هذا بالعديد من الأمثلة التاريخية الموثقة من الصين وروما القديمتين، مرورا بالعصور الوسطى، وصولا إلى العصور الحديثة، وحتى الراهن([10]).

وإذا ما عدنا إلى تراثنا العربي الإسلامي، فسنجد فيه ما يؤكد حق المَجور عليهم اجتماعيا في الثورة على المنظومة الاجتماعية الجائرة، وعن هذه المسألة يقول الكاتب والباحث في الفكر السياسي د. وليد القططي: «نُقل في الأثر عن أبي ذر الغفاري - رضي الله عنه - وهو خامس من أسلم من الرجال أنه قال محرّضاً الفقراء الجوعى على الثورة "عجبتُ لمن لا يجدُ القوت في بيتهِ كيف لا يخرجُ على الناس شاهراً سيفه". ولقد عبّر ابن حزم الأندلسي إمام المذهب الظاهري عن هذا المعنى في كتابه (المُحلّى بالآثار). بقوله: "إنه إذا مات الرجل جوعاً في بلدٍ اعتبر أهله قتلة، وأُخذت منهم دية القتيل، وأن للجائع عند الضرورة أن يُقاتل في سبيل حقه في الطعام الزائد عند غيره, فإن قُتل - أي الجائع- فعلي قاتله القصاص, وإن قُتل المانع لعنه الله لأنه منع حقاً وهو طائفةٌ باغية".»([11]).

وكما نرى فيما تم عرضه من آراء مختلفة، أن هذه الآراء تـُجمع على الاعتراف بشرعية الثورات وحق الشعوب المضطهدة بالثورة ضد الحكام الظالمين الذي يجورون ويتغولون على الحقوق المختلفة لهذه الشعوب، سواء كانت هذه الحقوق اجتماعية معيشية أو مدنية سياسية.

وهكذا يمكن القول أنّ الثورة في المجتمعات، بمفهومها السياسي الاجتماعي، هي فعليا ظاهرة اجتماعية موضوعية طبيعية، وهي تحدث بشكل طبيعي عندما تكتمل شروط حدوثها؛ ومن هذه الطبيعة الخاصة بها كثورة، إضافة إلى حقوق الناس في العيش الكريم والحرية والعدالة والمساواة ومناضلة كل من وما يتناقض مع هذه الحقوق بطرق سلمية أو بالقوة والعنف، تستمد الثورة، كل ثورة مشروعيتها، أو شرعيتها، وبناء على ذلك يمكن القول بشكل معمم، أن كل مجتمع وكل شعب لديهما الحق الطبيعي التام في الثورة على أي حكم ظالم وظروف حياة جائرة، ولا يحق لأحد، كائنا من كان، أن ينكر عليهما هذا الحق بأية ذريعة أو تحت أية دعوى.

لكن إذا كانت "الثورة" بحد ذاتها شرعية، فهل يعني هذا أن كل مفاعيلها شرعية؟

واقعيا يقال أن "كل ما بني على باطل، فهو باطل"، لكن بالمقابل "لا يمكن القول بإطلاق أنّ كل ما بني على حق، فهو حق"، ومن الممكن للأمر أن يسير على شكل "كلمة حق يقصد بها باطل"، وقد لا يكون الأمر مقصودا، حيث أنه من الممكن أن يبنى على "الحق" بشكل مغلوط غير مقصود، فتكون النتيجة مع ذلك غلطا باطلا!  

وبالتالي يجب توخي أقصى درجات الحذر عند اشتقاق الشرعيات الفرعية من "شرعية الثورة" نفسها، وبالأخص "شرعية السلطة وطريقة ممارسة الحكم".

ولتوضيح المسألة بدقة، يمكننا العودة إلى العلاقة بين شرعية الثورة والشرعية الثورية في مرحلة ما بعد نجاح الثورة، وطرحها بمقاربة أخرى.

وفي هذه المقاربة الجديدة، يمكن القول أنّ هناك نوعين من الثورات:

النوع الأول هو الثورات التي تتغيا إحداث تغييرات سياسية اجتماعية دون إسقاط النظام القائم بشكل تام، وهذا النوع من الثورات يمكن اعتبارها "ثورات إصلاحية"، وهي عندما تقوم يكون هدفها إصلاح النظام القائم، وتعديله بدرجة معينة، ولكن ليس إسقاطه أو قلبه بالكامل، وهذه الثورات قد تنجح كليا أو جزئيا أو تفشل كليا في مسعاها، وبصرف النظر عن نتائج هذه المساعي، فمسألة شرعية هذه الثورات تكون مرتبطة بمسألة قيامها وحدوثها وأسلوب عملها، وما تصنعه من بنى ثورية، ومعنى الشرعية هنا هو أن هذه الثورات هي شرعية في قيامها ومساعيها ومطالبها ونشاطاتها وبناها.

ولكن هنا لا يـُطرح سؤال الشرعية فيما يتعلق بشرعية السلطة الثورية وأسلوب الحكم الثوري، لأن هذه الثورات لا تقوم باستبدال السلطة القائمة بسلطة أخرى.

أما النوع الثاني من الثورات، فهو "الثورات الانقلابية"، التي تسعى إلى تغيير جذري شامل في المنظومة السياسية الاجتماعية القائمة، ويكون تحقيقها لأهدافها مشروطا أو مرهونا بشكل تام بإسقاط النظام القائم بكليته.

وفي هذه الحالة يمكن تقسيم مسار مثل هذه الثورات إلى قسمين هما:

  • المرحلة الأولى: هي مرحلة القيام، أو الجريان، أو "الثوران"، وهذه المرحلة تنتهي بانتصار الثورة على النظام الحاكم القائم، إن تمكنت من الانتصار عليه وإسقاطه بالطبع، وبعدها تأتي مرحلة "ما بعد الانتصار".
  • المرحلة الثانية: وهي كما سلف الذكر "مرحلة ما بعد الانتصار"، "، أو "مرحلة البناء" أو "إعادة البناء"، وفي هذه المرحلة يـُفترض أن يتم العمل على بناء نموذج سياسي اجتماعي جديد تُحقـَّق فيه الأهداف التي قامت من أجلها الثورة.

 وهنا، أي في الثورات الانقلابية، قد تستلم القوى الثورية التي قامت بالثورة نفسها السلطة وتمارس الحكم، مبررة ذلك بأنها هي من قامت بالثورة وحققت الانتصار، وبالتالي يحق لها احتكار السلطة وممارستها وفق مشيئتها.

 أو يمكن لهذه القوى أن تتصرف بشكل مختلف تماما، تنتقل فيه هذه القوى مباشرة من الحالة الثورية إلى الحالة الديمقراطية، وهنا تَعتبِر هذه القوى الثورية التي قامت بإسقاط النظام السابق أن مهتمها الثورية، التي تم تكليفها بها من قبل الشعب، والمتمثلة بإسقاط النظام المرفوض قد أُنجِزت بإسقاطه، وأنه بات عليها الآن أن تدع شعبها، الذي كلفها ضمنيا بتلك المهمة، يبني دولته الجديدة بنفسه، وأنها كقوى ثورية لا يحق لها القيام بالوصاية عليه في هذه العملية.

أو يمكن لهذه القوى الثورية أن تتصرف بشكل وسطي بين الأسلوبين السابقين، بحيث لا تحتكر السلطة والحكم وعملية صنع القرار كليا، ولا تسلمها مباشرة للشعب، وإنما يتم هذا التسليم خلال "فترة انتقالية" محددة في مدتها الزمنية وضوابطها العملية.

 وهنا، أي في "حالة الثورات الانقلابية" يتخذ مفهوم الشرعية الثورية بعدا إضافيا يصبح فيه مرتبطا بشرعية حيازة "السلطة وممارسة الحكم".

وهكذا في هذه المقاربة يمكن في المحصلة القول بشكل متكامل أن مفهوم "الشرعية الثورية" هو مفهوم رباعي الأبعاد، وأبعاده الأربعة هي:

  • شرعية قيام الثورة.
  • شرعية حيازة السلطة.
  • شرعية ممارسة الحكم واتخاذ القرار.
  • وشرعية منتجات الثورة.

وقبل مناقشة هذه الأبعاد الأربعة للشرعية الثورية، يجدر بنا التطرق، إلى الأشكال الأخرى من أشكال الشرعية التي تـُشرعن فيها السلطة والحكم.

 

5- أنماط شرعية السلطة والحكم المختلفة:

في عالمنا المعاصر، أصبحت الشرعية الديمقراطية هي الأكثر انتشارا وقبولا على الصعيدين النظري والعملي، لكن مع ذلك، فهناك عدة مقاربات مختلفة للبت في موضوع شرعية الحكم، ولاسيما في الأوضاع السياسية والاجتماعية المختلفة، التي يمكن أن تكون مستقرة في حال أو مضطربة في سواه.

فمثلا يتحدث أ. د. محمد باميه في مقاله آنف الذكر عن "شرعية القضاء أو شرعية القانون" التي تـُعتمد في حالة الاستقرار المجتمعي، و"الشرعية الثورية" التي يجب أن تعتمد في حالة الثورة([12]).

أما البروفيسور الروسي نيكولاي سيرغييفيتش روزوف (Nikoláy SergéevichRozov)، المختص بالفلسفة الاجتماعية وفلسفة التاريخ والتاريخ النظري والماكروسوسيولوجيا، ورئيس مركز الفلسفة الاجتماعية والتاريخ النظري في معهد الفلسفة والقانون التابع لأكاديمية العلوم الروسية وجامعة نوفوسيبيرسك الحكومية، ففي بحثه المعنون بـ " أنواع الشرعية ومشكلة تبرير سلطة ما بعد الثورة"، المنشور عام 2011 من قبل مؤسسة "سوسيوناؤوكي" (Socionauki) (أي العلوم الاجتماعية)، فيتحدث بشكل مفصل عن هذه المسألة، ويقول: «يواجه كل نظام ما بعد ثوري مشاكل حادة من الاعتراف الداخلي والخارجي، أي الاعتراف بشرعيته؛ والمعنى الأكثر عمومية للشرعية هو الاعتراف بشرعية السلطة، وحقها في الحكم المتمثل بإنشاء القوانين، وجمع الضرائب والرسوم ، وفرض القرار، والمقاضاة، والمعاقبة»([13]).

ويصنف روزوف "الاعتراف بشرعية السلطة" بناءً على أساسين، "أولهما هو شخصية المُعترِف"، و"ثانيهما هو أساس الاعتراف".

فبناءً على شخصية المعترف، أي من يعترف بشرعية سلطة معينة، يطرح روزوف الأنماط التالية من الشرعية:

5.1- الشرعية الجماهيرية: وهي تعني أن يكون من يحكم، سواء كان فردا أو حزبا أو سلطة أو نظاما، معترفا بشرعية حكمه من قبل سكان بلده.

5.2- شرعية القوة: وتعني أن تكون أجهزة القوة كالجيش والشرطة والأمن وما يشبهها من التشكيلات المالكة للقوة القسرية والعنفية مؤيدة لمن يحكم، ومستعدة لاستخدام قوتها لصالحه.

5.3- شرعية النفوذ: وهي تعني أن تكون المؤسسات النافذة، الرسمية (مثل البرلمان، المحاكم العليا كالمحكمة الدستورية، وما يشبهها)، وغير الرسمية (مثل المؤسسة الدينية، رجال الدين، الكنيسة، وما يشبهها)، في المجتمع مؤيدة لمن يحكم.

5.4- الشرعية الدولية: وهي أن يحظى الحاكم باعتراف الدول الكبرى دوليا وإقليميا، واعتراف المنظمات الدولية كالأمم المتحدة، والإقليمية كالاتحاد الأوروبي مثلا.

أما بناءً على الأساس الذي يتم بموجبه الاعتراف بشرعية السلطة، فروزوف يقدم الأنماط التالية:

5.5- شرعية الأمر الواقع (de facto): وهي تعني الاعتراف بشرعية السلطة الحاكمة، إذا ما كانت تحكم في بلد ما منذ فترة طويلة بدون حروب وتمردات داخلية مستمرة، وبدون ارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو إبادات جماعية.

5.6- الشرعية القانونية (de jure): وهي وتعني الاعتراف بشرعية من يحكم بناء على مدى توافق طريقة وصوله إلى السلطة مع القوانين المحلية المعتمدة والمبادئ القانونية العالمية.

وبدورها تنقسم "الشرعية القانونية" إلى قسمين:

5.6.1- الشرعية القانونية القياسية، أو المحلية: وهي تعني إعطاء الشرعية للحاكم على أساس مطابقة آليات وصوله إلى السلطة لنصوص القوانين والأنظمة المعيارية المكتوبة، النافذة رسميا في مجتمعه عند وصوله إلى لسلطة فيه، أي أنه يـُحكم على شرعية الحاكم بموجب نصوص القوانين والأنظمة المعتمدة في بلده خلال فترة حكمه.

5.6.2- الشرعية القانونية العامة، أو العالمية: وفيها يـُحكم على شرعية الحاكم بناءً على مدى توافق آلية وصوله إلى السلطة مع المعاني المجردة والروحية القانونية للقوانين المتضمَنة في الوثائق الدولية، ومدى مطابقتها لمعايير حقوق وحريات الإنسان غير القابلة للتصرف، ولمبادئ المساواة والعدالة الإنسانيتين واحترام الطواعية في إبرام العقود؛ ويضاف إلى ذلك مدى الالتزام العملي لهذا الحاكم بهذه القوانين والمعايير والمبادئ ([14]).

 

 

6- المعنى العملي والتبرير المنطقي لـ "الشرعية الثورية":

كما سلف الذكر في الفقرة الرابعة (شرعية الثورة وعلاقتها بالشرعية الثورية)، من هذا البحث فالشرعية الثورية، بمعناها الموسّع تتضمّن:

  • شرعية قيام الثورة.
  • شرعية استلام السلطة.
  • شرعية الحكم.
  • شرعية منتجات الثورة.

وكما سلف الذكر أيضا في نفس الفقرة، فهذه الشرعية، وبحكم طبيعة الثورة نفسها، هي حالة تجاوز بمنطق الأمر الواقع لكل الشرعيات الأخرى التي يتحدث عنها روزوف وسواه من المفكرين، فتلك الشرعيات الأخرى تنطبق على المجتمعات التي المستقرة، وليس على المجتمعات التي تمر بحالة ثورة.

وفي هذه الفقرة ستتم مناقشة ما تعنيه "الشرعية الثورية" عمليا، وما هو تبريرها المنطقي.

6.1- شرعية قيام الثورة:

 في الفقرة الرابعة من هذا البحث تم الحديث حول مسألة "شرعية الثورة"، وبيان أنّ القيام بالثورة من أجل إسقاط أو تغيير أنظمة الحكم الجائرة الفاسدة، يعتبر في عالمنا المعاصر حقا لا شك فيه من حقوق الشعوب، وأنّ الاعتراف بهذا الحق له جذوره القديمة في التاريخ، ومن ثم يصبح قيام الثورة بناءً على هذا الحق أمرا مشروعا؛ وما يمكن إضافته باختصار في هذا السياق، هو أن هذه الشرعية لها ثلاثة أبعاد، هي:

 6.1.1- البعد الموضوعي: وهو يعني أن الثورات لا تتم ولا تـُستحدث حسب الطلب، فهي لا تقوم إلا عندما تتكامل شروطها الموضوعية، وهي عندما تقوم فهي تقوم لأنه أصبح من المستحيل ألا تقوم، وهذه العملية محكومة بقانونيات اجتماعية محضة، ولا تخضع لإرادات أو رغبات أو مؤامرات أية جهة من الجهات، كائنة من كانت هذه الجهة.

6.1.2- البعد الحقوقي: وهو يعني أن من حق كل الإنسان، فردا وجماعة، أن يقاوم الظلم والفساد وأن يرفضهما، وأن يسعى للتخلص منهما، وهذا مبدأ إنساني أعلى، وعندما تـُستنفد الأساليب المطلبية والحوارية لتحقيق هذا الغاية، أو تفشل أو تكون غير متاحة، فهنا يصبح من حق الإنسان أن يثور على هذا الوضع بشكل سلمي إن استطاع، وعنفي إن اضطر لذلك.

6.1.3- البعد الأخلاقي: بما أن الثورة من حيث المبدأ تستمد شرعيتها الحقوقية من أساس إنساني يتمثل بحق الإنسان في الخلاص من الظلم والفساد والسعي إلى بناء مجتمع إنساني يضمن للإنسان الحياة الإنسانية الكريمة والسعيدة، فالثورة نفسها يجب عليها أيضا أن تكون ملتزمة تماما بالمعايير الإنسانية، فلا تـُرتكب فيها أية أفعال ضد إنسانية، ولا توضع لها أهدافا تتعارض مع الحقوق والحريات الإنسانية، ولا تتم فيها أية نشاطات عدوانية، فإن حدث أي من ذلك، فعندها تفقد الثورة شرعيتها، بل وصفتها كثورة.

6.2- شرعية استلام القوى الثورية للسلطة:  

كما سلف الذكر، هذا النوع من الشرعية، يرتبط بالثورات التي يتم فيها إسقاط النظام القائم بشكل كامل، كما هو الحال في الثورة السورية، مثلا، وهذا النوع من الشرعية له مبرراته المنطقية والأخلاقية التالية:

6.2.1- ملء الفراغ السلطوي: عند إسقاط النظام القائم بالقوة العنيفة، تكون الدولة التي حدثت فيها مثل هذه الثورة عادة قد تعرضت لقدر كبير من الدمار والفوضى، ولا تكون الظروف فيها مناسبة للانتقال المباشر إلى "الشرعية الديمقراطية الرسمية"، ولذا لابد من مرحلة انتقالية، ولكي لا يحدث فراغ أو تعطل سلطوي في البلاد خلال هذه الفترة، فلا مفر من أن تستلم "القوى الثورية" التي أسقطت النظام السابق السلطة، وثمة هنا سبب عملي محض، ذلك أن هذه القوى، لكي تتمكن من إسقاط غريمها السابق، يكون قد وجب عليها من أجل ذلك أن تكون على قدر كاف من التنظيم وامتلاك القوة العسكرية، وهذا بالضبط ما يجعلها مؤهلة عمليا لاستلام السلطة، فالسلطة تقتضي من صاحبها أن يكون لديه ما يكفي من التنظيم والقوة؛ وبالتالي فنحن هنا نتكلم عن "أهلية عملية للسلطة" تبنى عليها "شرعية عملية للسلطة"، وهذه القوى في لحظة سقوط النظام وإن كانت فعليا "قوى ثورة" وليس "قوى دولة"، فهي مع ذلك تكون الطرف الأنسب لسد فراغ السلطة في لحظة سقوط النظام القديم.

6.2.2- عدم الجاهزية للانتقال المباشر إلى النظام الديمقراطي: في حالة ثورة عنيفة يتم فيها إسقاط نظام قائم بسبب جوره وفساده، لا يكون الشعب مؤهلا فورا لاستلام زمام الأمور، ولا المجتمع جاهزا للقيام بعملية ديمقراطية مباشرة، وهذا يحتاج إلى وقت لكي يتم امتلاك الآليات اللازمة لذلك، ولذا لابد من تكليف القوى الثورية التي قامت ونجحت بالثورة بقيادة المرحلة الانتقالية بما ينسجم مع أهداف وغايات الثورة، وليس لأن هذه القوى بما تمتلكه من تنظيم وقوة هي مؤهلة عمليا لهذه القيادة وحسب، بل لأنه يفترض بهذه القوى المؤهلة للقيادة أن تكون كقوى ثورية أمينة أيضا على أهداف وغايات الثورة، بحيث تقود البلاد خلال هذه المرحلة الانتقالية بما يتوافق تماما مع هذه الأهداف والغايات.

6.2.3- التأييد الجماهيري للقوى الثورية: إنّ مفهوم "الثورة" بحد ذاته يعني أن تكون حركة ذات مشاركة وتأييد جماهيريين واسعين، وبالتالي، فالقوى الثورية المسلحة في الثورة العنيفة يمكن اعتبارها "رأس حربة الثورة"، وبصفتها هذه، التي تعني أنها مدعومة ومؤيدة على نطاق واسع من قبل "جمهور الثورة"، فهي عندما تتولى الحكم مؤقتا لأسباب موضوعية معينة، تكون بنفس الوقت حائزة على تأييد جماهيري كبير، وهذا ما يعطيها "شرعية جماهيرية".

وخلاصة القول في مسألة شرعية استلام القوى الثورية في ثورة مسلحة للسلطة بعد إسقاط نظام الحكم الذي قامت الثورة ضده، هو أن هذه القوى يحق لها استلام السلطة بعد نجاح ثورتها المسلحة في ظروف لا يمكن فيها الانتقال المباشر إلى الحالة الديمقراطية، وتقتضي مرحلة انتقالية، لأنها وحدها تمتلك شرعية القوة والقدرة اللازمة لسد الفراغ السلطوي، وتمتلك الشرعية الأخلاقية التي تفترض فيها الوفاء لمبادئ وأهداف الثورة، كما وتمتلك أيضا الشرعية الجماهيرية التي تشرعن قيادتها للمرحلة الانتقالية إضافة إلى الشرعيتين الأخريين السابقتي الذكر.

6.3- شرعية حكم القوى الثورية:

أو شرعية ممارسة السلطة بعد استلامها، وهذه الشرعية تقتضي من القوى الثورية التي استلمت السلطة بعد نجاح ثورتها، أن تتحلى بصفتين، وهما الكفاءة المهنية في قيادة المرحلة الانتقالية من ناحية، والكفاءة الأخلاقية المتمثلة بالالتزام بمبادئ وغايات الثورة؛ فإن فقدت هذه القوى الثورية في عملها السلطوي أو الحكمي أيا من هاتين الكفاءتين، فهي بذلك حكما تفقد شرعيتها في السلطة والحكم.

6.4- شرعية منتجات الثورة:

المقصود بمنتجات الثورة، هي كل التنظيمات والبنى والأجسام التي تنشأ خلال مرحلة جريان الثورة، أو التي تعقب انتصارها مباشرة في المرحلة الانتقالية التي يتم فيها الانتقال من حالة الثورة إلى حالة الدولة، ومن النظام القديم إلى النظام الجديد.

وكل هذه المنتجات التنظيمية والبنيوية والتشكيلية تكون حائزة بطبيعة الحال على الشرعية الثورية بمعنى انتمائها إلى الثورة وكونها مكونات من مكوناتها، وهذا بالطبع يشترط حكما أن تكون كل هذه التنظيمات والبنى والتشكيلات ملتزمة بمبادئ وأهداف وقيم الثورة، وإن اتصفت بذلك، فعندها يمكن اعتبارها "قوى ثورية".

وبعد انتصار الثورة، هذه القوى يجب أن تخضع في المرحلة الانتقالية لعملية إعادة هيكلة بمنطق الأمر الواقع، وليس بناء على إرادة طرف معين أو أطراف معينة منها، وبذلك يمكن لبعض هذه القوى أن يكون صالحا للاستمرار اللاحق في المرحلة الدائمة، ومن ذلك مثلا الأحزاب والتنظيمات السياسية ومنظمات وفعاليات المجتمع المدني؛ ومنها ما يجب إعادة هيكلته كالفصائل العسكرية، التي يجب حلها كتنظيمات، ودمج الراغبين من أفرادها في مؤسسات الدولة الرسمية كالجيش والشرطة وقوى الأمن؛ ومنها ما يجب حله كالبنى الإدارية والقيادية المتعلقة بقيادة الثورة، ليخلي المكان لبنى جديدة تناسب إدارة وقيادة الدولة، أو تطويره بحيث يصبح قابلا للدمج في مؤسسة الدولة الجديدة.

وكل هذه العمليات في المرحلة الانتقالية يجب أن تتم بشكل سلمي وحواري وتفاهمي، وبدون فرض أو قسر أو عنف من قبل أي طرف ضد أي طرف آخر.

فكل هذه الأطراف تتساوى في انتمائها للثورة، وتتشارك فيها بالشرعية الثورية، وأي طرف منها يسعى لاستغلال أو استعمال هذه الشرعية ضد سواه من هذه الأطراف، فهو بذلك يناقض الشرعية الثورية ويخرقها ويتخارج معها.   

 

 

7- شروط حفاظ "السلطة الثورية" على "الشرعية الثورية":

ما يجب التركيز عليه، وبناء على ما تم توضيحه، هو أن "الشرعية الثورية"، وبالأدق "شرعية سلطة القوى الثورية المسلحة بعد انتصار الثورة"، هي ليست "شيكا على بياض" ولا هي "مكافأة أو أجر" ولا "غنيمة حرب" تقدم لهذه القوى لأنها أسقطت النظام المرفوض، وأي تفكير من هذا القبيل يتناقض مع "مفهوم الشرعية الثورية" ومبرراتها وغاياتها.

ولكي تحافظ السلطة الثورية على شرعيتها، فهي ملزمة تماما بما يلي:

7.1- الحفاظ على وقتية فترة حكمها:

إن وقتية السلطة القائمة على الشرعية الثورية هي عنصر رئيس من عناصر شرعية هذه السلطة، التي يجب أن تكون "سلطة مؤقتة"، ويجب أيضا ألا تتحول إلى سلطة دائمة.

فـ "الشرعية الثورية" ليست قطعا بديلا لـ "الشرعية الشعبية" أو "الشرعية الديمقراطية"، التي هي اليوم الشرعية العليا التي يركز عليها الفكر السياسي الحديث؛ وبما أن شرعية الثورة نفسها تعتمد على حق الشعب في أن يثور على نظام الحكم المستبد الظالم الفاسد، ويسقطه إن اقتضى الأمر، فهذا الحق الذي يمتلكه الشعب في رفض الاستبداد والظلم والفساد وطلب الحرية والعدل والصلاح، يستتبع حكما حق الشعب في أن يحكم نفسه بنفسه، وألا يتحكم به مجددا حاكم مستبد آخر يلغي حريته ويصادر قراره، فشرعية ثورة الشعب وشرعية حكم الشعب مرتبطتان ببعضهما ارتباطا جوهريا، ولا تنفصلان، وبالتالي يصبح أي حكم دائم غير ديمقراطي في هذه الحالة متناقضا مع مبادئ وأهداف الثورة، ويفقد بالتالي "شرعيته الثورية" ويصبح في المحصلة حكما فاقدا لكل من الشرعيتين الثورية والديمقراطية.

وبرأي البروفيسور محمد باميه يرتبط مفهوم الشرعية الثورية بحالة استثنائية وغير عادية  من الوحدة الشعبية، وهذه حالة وحدة شمولية، ويجب أن تكون آنية، فالشعوب لا يناسبها أن تعيش دائما في مثل هذه الوحدة الشمولية، التي لا تصر على ديمومتها إلا الأنظمة الفاشية، ولذا يجب أن تكون "الشرعية الثورية" مؤقتة، وهو في هذا يقول: «مفهوم الشرعية الثورية هو مفهوم مؤقت واستثنائي، ينتهي بانتهاء الحالة الثورية أو الفترة الانتقالية... ولذلك فعندما نتحدث عن الشرعية الثورية وشروطها ونحن في خضمّ الثورة، يجب أن نتذكر أن "الشعب" يريد في النهاية حياة طبيعية وليس ثورة دائمة»([15]).

7.2- الالتزام بمبادئ وغايات الثورة، والأخلاقيات الإنسانية:

بالطبع، التزاما بمبدأ "العقد شريعة المتعاقدين"، يمكن اعتبار "الشرعية الثورية" تفويضا بالسلطة للقوى الثورية من قبل الشعب لتحكم مؤقتا بما يخدم قضية تجسيد مبادئ الثورة وتحقيق أهدافها، وهذا التفويض وفقا لهذه الضوابط يمكن اعتباره "عقدا اجتماعيا آنيا" بين الشعب والقوى الثورية الحاكمة، وعلى هذه القوى أن تلتزم به تماما، وفي حال لم تلتزم "القوى الحاكمة" بهذه المبادئ، أو أنها مارست القمع والظلم والفساد، فهي بذلك تكون قد خرقت "عقدها التفويضي" مع الشعب، وفقدت بالتالي شرعيتها الثورية، وشرعية سلطتها المرتبطة بها.

ومن ناحية أخرى، فالثورة في مرحلة قيامها، ومرحلة ما بعد تمكنها من إسقاط النظام الذي قامت ضده، وبصفتها تتضمن كثورة البعد الإنساني الجوهري في مبررات قيامها والأهداف التي تسعى إليها، فهي ملزمة دوما بأن تحافظ على المبادئ الإنسانية، فلا تقوم بأية أعمال انتقامية أو جرائم ضد الإنسانية أو جرائم حرب ضد أتباع ومؤيدي النظام السابق، وبما أنه لابد من معاقبة المجرمين منهم، فهذا يجب أن يتم وفقا لآليات قضائية وقانونية نظامية، وليس على شكل انتقام، أو من قبل أطراف غير مخولة رسميا بالحساب والعقاب.

وبشأن هذا الالتزام الثوري بمبادئ وأهداف وأخلاق الثورة الواجب على السلطة الثورية، في حديث له في ‏30‏/01‏/2025، يقول حسين حمادة، القاضي المنشق، السابق في محكمة النقض وإدارة التشريع السورية بوزارة العدل: «نحن نعلم أن المشروعية الثورية -الممارسة بما يحقق أهداف الثورة- هي التي تحدد استمرار الشرعية الثورية أو زوالها، وهذا رهن بالأفعال التي ننتظر من الرئيس القيام بها والتي تؤدي إلى استقرار البلاد وتأمين العباد.»([16]).

لكننا نجد في هذا السياق أيضا مفهوما مختلفا عند صالح السنوسي، أستاذ القانون الدولي والعلاقات الدولية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة بنغازي، في مقال له منشور على موقع "شبكة الجزيرة" بتاريخ 11/8/2013، يقول فيه: «تعريف الشرعية الثورية زمنيا هي تلك المرحلة التي تستباح فيها الحقوق والحريات، والأرواح والأموال، التي تقف في مواجهة الثورة، أو تلك التي يمكن أن تستفيد منها الثورة المضادة» ([17]).

في الواقع ليس هناك ثورات مثلى، وكل الثورات، ولاسيما المسلحة منها تقع بدرجة أو بأخرى في بعض أو كل هذه الأفعال، ويذكر لنا التاريخ بشكل موثق أن الكثير من هذه الأعمال وقعت مثلا في الثورتين الفرنسية والروسية، وهما من كبريات ثورات التاريخ.

مع ذلك، مثل هذا المفهوم للشرعية الثورية هو مفهوم رهيب، ونحن نصبح هنا فعليا أمام حالة شرعية من نمط "شريعة الغاب" أو "شريعة اللاشريعة"، وإذا ما حكمنا على أية قوة أو سلطة ثورية تقوم بمثل هذه الأفعال الضدإنسانية بمنظور إنساني عقلاني، فيجب أن نقول عنها بأنها فاقدة للشرعية بقدرما تفعل هذه الفعائل، فالشرعية الثورية فعلا لا تعني غياب الشرع الذي يحمي الناس من الانتهاكات والجرائم تحت أي مسمى، وحالة ينطبق عليها مثل ذلك التعريف المذكور أعلاه، هي قطعا ليست "شرعية ثورية"، بل "استباحة ثورجية".  

7.3- عدم فقدان التأييد الشعبي:

التأييد الشعبي كما سلف التنويه، هو أحد أهم الركائز التي تستند عليها شرعية الثورة، سواء في مرحلة قيامها أو مرحلة ما بعد انتصارها، ولذلك كل سلطة ثورية، حفاظا على شرعيتها كسلطة، تكون دوما ملزمة بأن تكون سلطة مؤيَّدة شعبيا، وهذه السلطة تفقد شرعيتها إذا ما فقدت شعبيتها هذه، وهذا ما يتم عادة عندما تنحرف سلوكيات هذه السلطة عن مبادئ وغايات الثورة، ولا تعود منسجمة مع أهم الغايات التي تشرعن بموجبها هذه السلطة، وهي "إنجاح الثورة في تحقيق أهدافها، التي لا تنتهي عند إسقاط النظام المثور ضده وحسب، بل تمتد جوهريا لبناء دولة المواطنة والحرية والعدالة والمساواة والكفاءة".

وبهذا الشأن يقول أ. د. محمد باميه: «الهدف الأساسي لمفهوم شرعية الثورة هو إنجاح الثورة»، ويضيف: «الشرعية الثورية تستمد صفتها من الإجماع أو شبه الإجماع الشعبي عليها. ولذلك تنتفي صفة الشرعية الثورية عن أي قرار أو مبادرة ينتفي عنهما أو ينفضّ من حولهما شبه الإجماع.» ([18]).

7.4- عدم السعي لاحتكار السلطة:

من البديهيات أن احتكار السلطة هو نقيض مشاركتها، وبما يرتبط مع هذا يقول عبد الرحمن الحاج، الأكاديمي والباحث المتخصص في الحركات الإسلامية: «في حالات انتصار الثورات وسقوط النظام يظهر ميل مفاجئ وكبير للمشاركة في الهياكل السياسية» ([19]).

هذا السعي للمشاركة بعد إسقاط النظام المرفوضِ من قبل الشعب، هو أمر طبيعي تماما، وهو ينسجم تماما مع أهداف ثورة الشعب ضد ذاك النظام، التي عادة ما يشكل الاستبداد أحد أسباب قيامها الرئيسة، ولذلك يصبح هذا السعي الشعبي للمشاركة بعد إسقاط المستبد تجسيدا لحق الشعب بالحرية والديمقراطية وإرادة الشعب في المشاركة بالحكم.

لكن "مفهوم" المشاركة في السلطة وعدم احتكارها، لا يرتبط فقط بالأشخاص أو المجموعات التي تتولد أو تتفعّل أو تنمو عندهم الإرادة بالمشاركة السياسية بعد سقوط النظام المستبد، بل ترتبط أيضا بجميع ما تنتجه الثورة خلال فترة قيامها وحتى لحظة انتصارها من قوى وبنى ثورية، فكل هذه القوى والبنى التي تنشأ خلال فترة الثورة، وتشارك فيها مشاركة تنسجم مع مبادئ وأهداف وأخلاق هذه الثورة، ومثيلاتها من الأجسام السياسية والمدنية التي تنطبق عليها نفس المعايير، والتي تنشأ بعد انتصار الثورة، هي جميعا تشترك من حيث المبدأ في "مفهوم الشرعية الثورية".

هذا من الناحية المنطقية والأخلاقية، لكن من الناحية العملية، إشراك الجميع في السلطة هو أمر غير ممكن، وليس في المرحلة الانتقالية وحدها، بل حتى في المرحلة الدائمة.

وحل هذه المشكلة، يجب ألا يتم قطعا بأي شكل من أشكال المحاصة، والمطلوب من السلطة الثورية الانتقالية هو أمران:

الأول، وهو الإشراك المباشر، وهو يعني ألا تقتصر هيكليات هذه السلطة على أشخاص من لون واحد، وألا تقوم على مبدأ الولاء، بل يجب أن يتم التركيز فيها على الكفاءة التكنوقراطية والسياسية بصرف النظر عن الانتماء والولاء، وأن يُراعى فيها قدر الإمكان التنوع والتعددية، ولكن بشرط ألا يتم ذلك على حساب الكفاءة.

أما الثاني، فهو الإشراك غير المباشر، ومجاله أوسع بكثير من سابقه، وهو يعني أن تحكم السلطة الثورية المؤقتة بشكل ينسجم مع مبادئ وأهداف الثورة، فتضمن الحريات المختلفة، السياسية والمدنية والثقافية والإعلامية، وحريات التجمع والتنظيم والتظاهر والنقد، وسواها من الحريات؛ وأن تكون هذه السلطة منفتحة دائما، وبشكل واسع بنّاء على كافة القوى والأطياف في مجتمعها، فتحاورها وتلتقي معها وتستمع إليها وتستجيب لمطالبها، وتشجع الحوار والتعاون بينها، وما شابه.

وبهذه الشكل من العمل السلطوي من قبل "السلطة الثورية المؤقتة" يمكن ضمان "عدم احتكار السلطة"، والحفاظ على "شرعية هذه السلطة الثورية".

أما في حال ذهبت "السلطة الثورية" باتجاه الاستفراد بالسلطة والاستبداد تحت أي مسمى أو بأية ذريعة، فهي بذلك تفقد شرعيتها الثورية، بسبب مخالفتها لمبادئ وغايات الثورة، وعدم احترامها لإرادة شعبها.

7.5- عدم الصراع على السلطة:

الصراع على السلطة هو أحد أكبر المخاطر التي تتعرض لها الثورات بعد انتصارها، وهذا ما تعرضت له بدرجة كبيرة كل من الثورتين الفرنسية والروسية، ولم تنج منه معظم الثورات الأخرى بدرجة أو بأخرى.

وغالبا ما يكون سبب هذا الصراع هو عدم القدرة على إيجاد صيغة متوافق عليها بعد انتصار الثورة للتشارك في السلطة، أو سعي أحد أو بعض الأطراف الثورية للاستفراد بالسلطة.

هذا النوع من الصراعات، تتعرض له بشكل رئيس الثورات، التي لا تكون فيها القوى الثورية، أو القوة التي تتمكن من الوصول إلى السلطة من هذه القوى، بعد انتصار الثورة، عازمة على القيام بعملية انتقال ديمقراطي، وإنما عازمة على التشبث بالسلطة والتفرد بها ومواصلة الحكم بشكل دائم، وهنا لا يكون من احتمال أمام القوى الثورية الموجودة إلا أن "تتحاصص" أو "تتصارع"؛ وفي حال كهذه، حتى وإن تمكنت هذه القوى من التوصل إلى صيغة مقبولة من التحاصص، فهي لن تتمكن من إنتاج حالة سلطوية مستقرة، وهذا يرتبط بثلاثة عوامل، وهي:

أولا: أنّ مثل هذا التحاصص ينتج حالة استبداد سياسي، وهذا في المحصلة يؤدي عاجلا أم آجلا إلى ثورة الشعب.

وثانيا: أنّ التحاصص يرتبط دائما بالفساد، وهذا بدوره عامل آخر يدفع إلى ثورة الشعب.

وثالثا: أنّ العلاقة بين المتحاصصين، تكون دوما علاقة تنافسية، وكل طرف فيها يركز على مصالحه ومكاسبه الخاصة، وهذا لا يصنع مؤسسة سلطوية منسجمة قوية، بل ينتج سلطة أو حكومة هشة ضيعفة.

وفي حال مثل هذا الحال، الذي تتحول فيه القوى الثورية إلى مقتسمي غنائم ومكاسب أو متخاصمين عليها، لا يعود ثمة مجال للحديث عن "شرعية ثورية"، فلا أحد من هذه القوى في وضع كهذا الوضع يبقى محافظا على "صفة الثائر الحقيقي" الأمين والوفي لثورته والمؤهل للحصول على شرعية الحكم باسمها.

لكن بالطبع، بقدرما يكون هناك بين القوى الثورية اتفاق ضمني أو علني مضمون على  مرحلة حكم انتقالية، يتم بعدها الانتقال إلى حالة ديمقراطية، يصبح خطر الصراع على السلطة أقل بكثير، وتصبح قدرة القوى الثورية على التشارك حتى في حكم المرحلة الانتقالية أكبر، وبصيغة مختلفة عن المحاصصة، تقوم على تغليب المصلحة العامة على الخاصة، وتغليب الكفاءة على الولاء والانتماء.

وهنا يبقى مفهوم "الشرعية الثورية" قائما، ومنطبقا على عمل القوى الثورية التي "تتشارك" في عملية إدارة البلاد في المرحلة الانتقالية، ولكنها لا تتقاسم أو تتحاصص في هذه العملية، التي لا يكون فيها من تقاسم إلا تقاسم الأعباء والمهام بهدف القيام بها.

ومن المهم في ختام هذه الفقرة التنويه، أن مفهوم "القوى الثورية"، يمكن أن يكون دالا على جماعات مختلفة، فصائل عسكرية أو سياسية مختلفة مثلا، أو على كتل أو تيارات داخل جماعة واحدة، أو حتى على أشخاص قياديين ونافذين في جماعات مختلفة أو في نفس الجماعة.

7.6- عدم تجاوز صلاحياتها كسلطة مؤقتة:

في المراحل الانتقالية التي تقودها سلطات مؤقتة، لا تكون صلاحيات هذه السلطات كاملة، كما هو الحال في الأوضاع العادية، ولذلك يكون من الضروري جدا على أية سلطة مؤقتة أن تلتزم بحدود صلاحياتها كسلطة مؤقتة، وألا تتصرف وكأنها سلطة دائمة كاملة الصلاحيات.

وعن صلاحيات الحكومات المؤقتة، تقول "مؤسسة دعم الانتقال الديمقراطي (IFIT)" في موجز لها صادر عام 2020: «أما اختصاصاتها فتتراوح بين توفير الخدمات الحكومية الأساسية أو إعادة توفيرها وتأدية مهام محددة، كصياغة دستور أو إجراء إصلاحات اقتصادية.»([20]).

وبالطبع مثل هذه المهام يجب أن تحظى بموافقة الشعب عليها، أما إن ذهبت بها السلطة المؤقتة إلى ما يتعارض مع إرادة الشعب، أو هي تجاوزت صلاحياتها، فعندها لا يمكن للشرعية الثورية قطعا أن تبرر هذه السلوكيات من قبل هذه السلطة المؤقتة، التي تفقد هذه الشرعية إن هي حكمت بما لا يتوافق مع الإرادة الشعبية أو بشكل يتجاوز صلاحياتها المحددة.

وكمثال على ذلك، لا يحق للسلطات المؤقتة إبرام معاهدات أو اتفاقيات دولية (يستثنى من ذلك بالطبع حالة تعرض البلد أو الثورة لخطر مصيري)، فهذه المسألة لا تدخل في صلاحياتها، ولا يحق لها أيضا أن تقوم بخصخصة وبيع مؤسسات القطاع، فهذه الأمور من اختصاص السلطات الدائمة، ويجب أن تتم تماما بموافقة شعبية.

كما لا يحق للسلطات المؤقتة أيضا تحديد شكل الدولة، وهل هو رئاسي أم نيابي أم مختلط، فهذا الحق أيضا لا تمتلكه حتى السلطات الدائمة، ولا يحدد بقرارات، وإنما يتم طرحه بعد مشاورات من قبل لجنة دستورية عبر مشروع دستوري دائم يصوت عليه الشعب.

لكن بالطبع يحق للسلطات المؤقتة أن تقوم بالكثير من الأعمال الهامة في الميادين المختلفة، منها على سبيل الأمثلة:

 في مجال العلاقات الدولية عقد اتفاقات إجرائية دولية، الغاية منها تحسين العلاقات العامة، السياسية والاقتصادية وسواها من العلاقات مع الدول الأخرى، كالتجارة والاستثمار ومكافحة الجريمة والإرهاب والتعاون العلمي والتكنولوجي.

ويحق لها في المجال الاقتصادي مكافحة الفساد والتسيب في المؤسسات العامة، ومكافحة التهرب الضريبي، وسن التشريعات التي تيسر الاستثمارات وتضبط الاعمال، والقوانين التي تحفظ حقوق كل من الدولة وأصحاب العمال والعاملين.

كما ويحق لها في الميدان القانوني سن القوانين الضرورية للحفاظ على أمن البلاد بشرط عدم المس بحقوق وحريات الناس، وإلغاء القوانين والتدابير المسيئة لمصلحة المجتمع والفرد.

 وهكذا دواليك من هذه الإجراءات التي يمكن وصفها بأنها إجراءات خدمية عامة وإصلاحية محدودة، وتمهيدية أو تجهيزية للمرحلة الدائمة التالية.

7.7 – النجاح العملي في مهامها:

وهذه مسالة في غاية الأهمية، فالسلطة في المرحلة الانتقالية، تقع على عاتقها جملة من المهام الجسام، الواجب القيام بها بشكل ناجح في ظروف تكون حرجة، وفي حالة الثورات غالبا ما تكون متدهورة، بل وكارثية أحيانا كما هو الحال في سوريا اليوم.

وهذه المهام تتضمن بخطوطها العريضة مسائل أمن البلاد ومعيشة المواطن وتوطيد سلطة القانون وتحقيق العدالة الانتقالية وإصلاح المؤسسات، وتمكين الانتقال السياسي إلى الحالة الدائمة.

ومن المهم جدا في هذه المرحلة، ولإنجاح المهام المطلوبة من السلطة الانتقالية، أن تعتمد هذه السلطة على الكفاءات التكنوقراطية المحضة وأن تحصر وتركز أعمالها في إطار هذه القضايا.

ومن المهم أيضا في هذه المرحلة ألا ترهق السلطة الانتقالية نفسها بالمهام التي تفوق طاقتها، وتتصرف وكأنها سلطة دائمة، فتصرّف كهذا يمكن أن يؤدي إلى فشلها.

في حديثه عن "الحكم الانتقالي" يشبّه الباحث السياسي روبرت فوستر (Robert Foster) هذا الحكم بـ "الجسر" الذي يتم إنشاؤه في الغالب لتمكين البلدان التي تحكمها أنظمة سلطوية من تجاوز أزماتها السياسية أو العنيفة وبداية عهد جديد يحكمه نظام أكثر ديمقراطية؛ ويضيف أن على مسؤولي السلطة الانتقالية «عدم تحميل الجسر بما يفوق طاقة استيعابه وهو ما يهدد بانهيار عملية الانتقال السياسي»([21]).

وبرأي فوستر، تتضمن عملية الانتقال المهام الثلاث التالية:

«أ- تشكيل حكومة تتقاسم من خلالها الأطراف المعنية أعباء الحكم.

ب- التعهد بوقف الأعمال العدائية.

ج- آلية تسمح بنقل السلطة إلى حكومة ما بعد المرحلة الانتقالية عن (طريق الانتخاب عادة)».

وووفقا له، فهذه المهام الثلاث تندرج عادة في أربعة "مسارات" محددة، وهي:

أولا- مسار سياسي يتم فيه تشكيل حكومة مؤقتة تقوم خلال الفترة الانتقالية بمهمتي تسيير أعمال الحكم وتنفيذ عمليات الإصلاح.

ثانيا- مسار أمني يتم فيه فرض وقف إطلاق النار، وإصلاح القطاع الأمني، وإيجاد الآليات اللازمة لنزع سلاح الميلشيات المسلحة وتسريح مقاتليها أو إعادة إدماجهم في قوات مسلحة نظامية.

ثالثا- مسار دستوري، يتم فيه القيام بإصلاحات دستورية وقانونية تتضمن إرساء الآليات الضرورية لإجراء المشاورات العامة.

رابعا- مسار اقتصادي يتم فيه السعي إلى الحصول على دعم خارجي لتمويل عملية الانتقال([22]).

وبكل تأكيد فشل السلطة المؤقتة في القيام بالمهام المطلوبة منها في المرحلة الانتقالية أيا كانت أسبابه، هو بحد ذاته سبب كاف لإسقاط شرعية هذه السلطة أيا كانت مبرراته، فلا شرعية للفشل، ولا مشروعية للفاشل؛ ومثل هذا الفشل عواقبه وخيمة جدا لأنه يهدد بفشل عملية الانتقال إلى الديمقراطية وبالفشل في تحقيق أهداف الثورة.

 

 

8- خصوصية الثورة السورية ومسألة "الشرعية الثورية":

ما لاشك فيه أن الثورات تتشابه في أمور، وتختلف في سواها، وفي المحصلة يمكن القول أن لكل ثورة خصوصيتها التي تتميز بها عن سواها، وهذا ما سنصل إليه بكل تأكيد إذا ما قارنا الثورة السورية بثورات كالثورة الأمريكية والثورة الفرنسية والثورة الروسية، والثورة الهندية (بقيادة غاندي)، والثورة الكوبية، والثورة الجزائرية، وثورات الربيع العربي كالثورة التونسية والمصرية والليبية، أو سواها.

وهذه الثورات منها ما كانت ثورات تحرر وطني كالثورات الأمريكية والهندية والجزائرية، ومنها ما كانت ثورات تحرر اجتماعي مسلحة كالثورات الفرنسية والروسية والليبية، ومنها ما كانت ثورات تحرر اجتماعي سلمية كالثورتين التونسية والمصرية.

ومن ناحية أخرى فبعض هذه الثورات امتلكت تنظيمات ثورية مسلحة منظمة موحدة كالثورات الأمريكية والروسية والكوبية والجزائرية؛ وبدرجة أقل الثورة الفرنسية، والثورة الليبية؛ أو كانت ثورة لاعنفية، ولكنها امتلك بينية ثورية منظمة كالثورة الهندية؛ أو كانت ثورة سلمية عفوية شعبية كالثورتين التونسية والمصرية.

وبعض هذه الثورات كانت ثورات مؤدلجة كالثورتين الروسية والثورة الكوبية، فيما لم تكن لدى الثورات الأخرى مثل هذه الإيديولوجيا الصارمة.

لقد كانت الثورتان الروسية والكوبية "ثورتين إديولجيّتين"، فكلتاهما ثورتان شيوعيتان، وكلا منهما عندما قامت كانت تهدف إلى بناء مجتمع شيوعي، وفق إيديولجية صارمة تحدد مسار الثورة خلال قيامها وجريانها، وبعد انتصارها.

وهذا النوع الإيديولوجي من الثورات، يختلف عن الثورات التحررية الاجتماعية التي يكون هدفها تحرير مجتمعها من الاستبداد والفساد، دون أن يكون لديها قالب إيديولوجي صارم لمجتمع ما بعد ما بعد إسقاط النظام الديكتاتوري الفاسد، وإنما تترك مسألة الاختيارات في شأن التغييرات والتعديلات والإصلاحات المجتمعية للشعب نفسه ليقرر ذلك بشكل ديمقراطي، ولذلك ينتهي "دور القوى الثورية" في الثورات غير المؤدلجة إما بعد نجاح الثورة في إسقاط المستبد الفاسد مباشرة، أو بعد مرحلة انتقالية قصيرة نسبيا، يتم عبرها الانتقال إلى حالة تنتقل فيها السلطة إلى يد الشعب، هذا بالطبع إذا لم تنتكس هذه الثورات.

أما "الثورات الإيديولوجية" فلا تتصرف بهذا الشكل، فكونها تقوم ولديها من الأساس صورة مسبقة لمجتمع منمّط أو منمذج، فدورها لا ينتهي قطعا بعد إسقاط منظومة الحكم الراهنة؛ وبعد إسقاط النظام الحاكم، تستلم القوى الثورية السلطة ليس لتقوم بعملية انتقالية قصيرة الأمد، بل لتقوم بعملية تحويلية طويلة الأمد، فمثلا في الفكر الماركسي الذي تقوم عليه الشيوعية، بعد انتصار الثورة الاشتراكية، تعقبها مرحلة "دولة دكتاتورية البروليتاريا"، ثم مرحلة "دولة الشعب كله"، وبعدها تأتي مرحلة "الإدارة الذاتية الشيوعية" التي تزول فيها الدولة نفسها ويستغني عنها المجتمع، والوصول إلى هذه المرحلة الأخيرة يمكن أن يستغرق عقودا، وربما أكثر، وإلى أن يتم ذلك تبقى السلطة طيلة هذا الزمن بيد القوى الثورية، أي الأحزاب الشيوعية عادة([23]).

هذا النمط من التجارب الثورية الشمولية المتأدلجة المتنمذجة، يختلف جدا عن الثورات التي تهدف إلى بناء مجتمعات ديمقراطية، ومفهوم الشرعية الثورية هنا، يصبح بدوره مختلفا بالقدر نفسه، وهو لا ينطبق قطعا على ثورات كالثورة السورية وبقية ثورات الربيع العربي، التي لم تكن في أصلها ثورات مؤدلجة، ولم تحمل على أكتافها صورة لنظام شمولي أو مجتمع منمذج، أو قالبا مسبقا لقولبة المجتمع فيه، وإنما كانت هذه الثورات ثورات تحررية تتغيا تحرير بلدانها من قيود الاستبداد والفساد التي تحول دون تطور هذه البلدان بشكل طبيعي وعصري، تتمكن فيه شعوبها من العمل الفاعل على بناء مجتمعاتها ودولها بشكل متقدم حديث.   

وإذا ما قارنّا الثورة السورية بكل من هذه الثورات، فسنجد أنها تتقاطع مع العديد منها في العديد من الأمور، وتختلف عنها في أخرى.

فالثورة السورية بدأت كثورة شعبية عفوية سلمية وغير مؤدلجة ضد نظام حكم ديكتاتوري؛ ولكن مآلات الأمور التالية دفعتها لاحقا إلى العمل المسلح الذي غلب عليها، ومع ذلك فالقوى المسلحة التي ظهرت خلال هذه الثورة، لم تكن موحدة أو متوافقة تنظيميا وفكريا، وفي توجهاتها الفكرية وأهدافها كان ثمة الكثير من الخلاف في النوع والكم، بل وحتى الصراع في العديد من الأحيان، وأكثرها كان لديه إيديولوجية إسلامية سياسية جهادية متشددة، فيما كان سواه متطرفا في ذلك، بل وبلغ الأمر بالبعض الحد التكفيري.

ولكن في المحصلة، وبعد زمن طويل من الصراع، وبعد أن دفعت البلاد والثورة أثمانا جد باهظة، تمكن قسم هام من الفصائل المسلحة التي ظهرت في سياق هذه الثورة من العمل معا بشكل منظم موحد، واستطاع في خاتمة المطاف أن يوجه الضربة الختامية القاضية لهذا النظام المستبد الجائر الفاسد التي أجهزت عليه نهائيا في عملية "ردع العدوان".

وإذا ما وضعنا جانبا بشكل مؤقت إشكالية الخلفية السلفية المتطرفة للقوى التي قامت بعملية "ردع العدوان"، واعتبرناها بناء على ذلك شرطيا قوى ثورية، فهنا سيكون ممكنا القول أن الثورة السورية في محصلتها النهائية يمكن تصنيفها في صنف الثورات المسلحة التي أسقطت الأنظمة التي ثارت ضدها، وقلبتها بشكل شامل تام، وبما أن هذه الثورة -أي الثورة السورية- انتصرت في ختامها كثورة سياسية اجتماعية مسلحة، فيمكن القول أنها تلتقي في النوع بشكل عام مع الثورات الفرنسية والروسية والكوبية والليبية.

ولكن إذا ما قارنا بين الثورتين السورية والليبية، وكلاهما ثورتان انتصرتا بقوة السلاح على الديكتاتورية الفاسدة القائمة، فسنجد أن الثورة السورية استغرقت زمانا أطول بكثير ودفعت أثمانا أكثر بكثير من الثورة الليبية، ولكنها في المحصلة تمكنت من تحقيق انتصار لا تهدده الانقسامات والصراعات على السلطة بين قوى الثورة نفسها كما حدث في الثورة الليبية، التي لم تنته مشكلاتها بعد.

وهكذا سيبدو الأمر في الحالة السورية، عند تجاوز الخلفية السياسية الجهادية للقوى التي حسمت المعركة الأخيرة مع النظام المثور ضده، وكأنه نموذج ثورة مسلحة منتصرة غير مؤدلجة وغير مهددة بالانقسام والصراع على السطة، وهذا ما يخول السلطة الراهنة التي أنتجها انتصار هذه الثورة الحصول على "الشرعية الثورية" للحكم في الفترة الانتقالية المؤقتة، التي يفترض أن يتم فيها، إضافة إلى تأمين الخدمات الحكومية الروتينية، العمل على إعادة بناء مؤسسات الدولة على أسس حديثة وتأهيل المجتمع اجتماعيا وسياسيا ومدنيا ليكون قادرا على التعامل مع متطلبات الدولة الحديثة، والانتقال من حالة الاستبداد غير السوية إلى حالة الديمقراطية السوية.

ومن المهم جدا التنويه إليه أيضا، هو أن المسار العسير الذي اتخذته الثورة السورية حتى لحظة انتصارها والأثمان الباهظة التي دفعتها لتحقيق هذا الانتصار، يمكن اعتبارها في المحصلة أمرا جوهريا في مصلحة هذه الثورة.

فبخلاف الثورتين التونسية والمصرية، قضت الثورة السورية بالكامل على النظام الحاكم السابق، وأسقطت معه كل أشكال قوته المسلحة، وأجهزته السيادية، وبالتالي فالثورة المنتصرة اليوم في سوريا لا يواجهها "جيش وشرطة وأجهزة أمن، ومحاكم عليا" غير منتمية إلى الثورة كما كان الحال في الثورتين التونسية والمصرية، وهذا ما أدى في المحصلة إلى انتكاس كل منهما.

ففي مصر مثلا، الثورة التي انتصرت، لعب دورا رئيسا في انتصارها انحياز الجيش المصري إلى جانب الثوار، (وهذا ما تم في تونس أيضا).

لكن بهذا الشكل فعليا بقي الجيش المصري وسواه من مؤسسات الدولة التابعة للنظام السابق قادرين على منافسة الثورة الناشئة، التي لم تستطع أن تنتج "سلطة ثورية" تحكم بموجب "الشرعية الثورية"، لأنها كثورة شعبية عفوية، لم تكن تمتلك القوة اللازمة لذلك، إضافة إلى أنها أيضا لم تكن تمتلك الوقت اللازم لامتلاك هذه القوة، التي كان من الممكن تأمينها عن طريق تنظيم الشعب الثائر وحشد قواه.

ولذلك كان على الثورة في مصر (وكذلك الحال في تونس) أن تمضي سريعا باتجاه الشرعية الدستورية، التي بقيت منافـَسةُ فيها من قبل "شرعية القوة" وغيرها من الشرعيات.

وفي الحالة المصرية التي كان انتكاسها أسرع وأكبر بكثير من الحالة التونسية،  بقيت "شرعية القوة" بيد "الجيش" الذي لم يكن منتميا إلى الثورة، ولم تستطع "الثورة" أن تصنع دولتها التي تكون حائزة فيها إلى جانب "الشرعية الدستورية" على "الشرعية النفوذية" أيضا، وعندما حاولت الثورة في مصر أن تبني دولتها بشكل دستوري، ففعليا لم يكن لدى هذه الثورة إلا الشرعية الجماهيرية والدستورية (المعنوية)، ولكن لم يكن "الجيش" ولا حتى "المحكمة الدستورية الرسمية" مؤيدين لهذه الدولة، وحتى جمهور الثورة انقسم لاحقا انقساما حادا بسبب الشقاق الكبير الذي حصل بين القوى السياسية، المدنية والإسلامية، التي كانت بالأمس قوى ثورية متحالفة بهدف إسقاط نظام مبارك المستبد الفاسد.

وعن هذه المشكلة في مصر قال أ. د. محمد باميه في عام 2012: «إذا نظرنا إلى مصر مثلاً، نرى كيف أن غياب مفهوم الشرعية الثورية عن مشهد المرحلة الانتقالية، وغياب آليات متفق عليها لوضعه حيّز التنفيذ، هو ما أدّى إلى حالة التخبّط الحالية، وعزز من قدرة السلطات الغير ثورية للتحكّم بالمشهد. فلو كانت الشرعية الثورية هي الفصل الحكم للمرحلة الانتقالية، لما كان بوسع المجلس العسكري أن يصدر إعلانا دستورياً مكملاً ينتقص فيه من صلاحيات السلطات المنتخبة، وما كان بإمكان المحكمة الدستورية العليا أن تحل برلماناً منتخباً بأوسع مشاركة شعبية في تاريخ مصر، وتـُحدث بذلك القرار فراغاً هائلاً في مرحلة شديدة الحرج من عمر الثورة»([24]).

أما في الحالة السورية، فالأمور اليوم مختلفة، فليس هناك اليوم مثلا "جيش غير ثوري، ومحكمة دستورية غير ثورية" قادرين على وضع "شرعية القوة" و"شرعية النفوذ" في مواجهة "شرعية الثورة"، وتهددانها، كما حصل في مصر، وهذه مسألة إيجابية كبيرة الأهمية.

 

9- إشكالية جوهرية في ماضي وهوية ونهج السلطة الجديدة في سوريا:

 في سوريا، قد يبدو اليوم وكأن الثورة انتصرت، فالنظام السابق الذي قامت الثورة السورية بهدف الخلاص منه قد سقط، ومنتصر المعركة الأخيرة يحكم الآن حكما يستمد شرعيته من مبدأ "الشرعية الثورية".

لكن مع ذلك فعند عدم الاقتصار على الحكم من منظور ظاهري، والنظر إلى الأمور نظرة موضوعية متعمقة، فسنجد أن هناك إشكالية حقيقية خطيرة ما تزال قائمة.

وجوهر المشكلة يتمثل في أن الثورة السورية أساسا قامت ضد الديكتاتورية القائمة، وبهدف الخلاص من هذه الديكتاتورية وبناء دولة ديمقراطية حديثة.

وبالتالي يصبح واجبا القول أن الانتصار الحقيقي للثورة السورية لا يقتصر فقط على إسقاط النظام الذي قامت ضده، بل في تحقيق الغاية التي قامت من أجلها هذه الثورة المتمثلة بالخلاص من الديكتاتورية وتحقيق الديمقراطية؛ وأنّ الانتماء الحقيقي إلى الثورة هو بالالتزام التام بأهدافها والنضال الفاعل الدائم لتحقيق هذه الأهداف قبل وبعد سقوط النظام الديكتاتوري السابق.

وما تقدم يعني حكما وبشكل قاطع أن من لا يلتزم بأهداف الثورة ولا يعمل لتحقيقها، فهو قطعا لا ينتمي إلى الثورة حتى وإن كان قد حارب النظام السابق، بل وحتى إن أسقطه، وهو في حال كهذه يكون إما صاحب مشروع مختلف عن الثورة الديمقراطية، أو مجرد مصارع على السلطة؛ وإن هو حكم، فكونه ليس منتميا إلى الثورة، فلا حق له بالحكم بموجب مبدأ الشرعية الثورية.

فما هو موقع قوى عملية "ردع العدوان" قبل وبعد إسقاط النظام السابق في الثورة السورية وفقا لهذه الحقيقة؟!

قوى "ردع العدوان" هي التي قامت بالعملية العسكرية الأخيرة التي حملت نفس الاسم، وسقط  في خاتمتها النظام السابق، وهذه القوى هي من استلمت السلطة بعد سقوط ذلك النظام؛ وهي بشكل عام قوى سلفية، والقوة الرئيسة والكبرى بينها هي "هيئة تحرير الشام"، التي كانت في ما مضى فرعا من "تنظيم القاعدة" الدولي تحت مسمى "جبهة النصرة"، وكان هدفها عند إنشائها عام 2011 إسقاط نظام الأسد وإقامة دولة إسلامية في سوريا، وفي غضون أقل من عام بعد الإعلان عن تأسيسها في يناير/كانون الأول 2012 تمكنت من أن تصبح قوة فاعلة بين الجماعات المسلحة التي كانت تحارب نظام الأسد، وواصلت قوتها النمو لاحقا، وقد صنفتها الولايات المتحدة في ديسمبر/كانون الأول 2012 كمنظمة إرهابية؛ وفي آب عام 2016 أعلنت هذه "الجبهة" عن فك ارتباطها بـ"القاعدة" لأسباب عملية.

لم تنضو جبهة النصرة تحت مظلة الجيش الحر وقيادة المعارضة السياسية السورية، وقد تذبذبت علاقتها معهما بين التعاون والخلاف، بل وحتى الصراع.

 وقد خاضت جبه النصرة مواجهات عنيفة ليس فقط ضد النظام السوري، بل ضد العديد من فصائل المعارضة الأخرى، المتطرفة والمتشددة والمعتدلة، كداعش، وجيش الإسلام وحركة أحرار الشام، وجبهة ثوار سوريا التابعة للجيش الحر وحركة حزم، والجبهة الوطنية للتحرير والجيش الوطني، وغيرهم؛ وقد قامت في ديسمبر/كانون الأول من عام 2017 بطرد "الحكومة السورية المؤقتة" التابعة لـ "الائتلاف الوطني لقوى الثورة والمعارضة السورية" من مدينة إدلب ومحيطها؛ وقد حدث كل ذلك قبل فك ارتباط الجبهة بالقاعدة وبعده، وحتى بعد أن تحولت "جبهة النصرة" إلى "هيئة تحرير الشام " عبر مرحلة "فتح الشام" الوسيطة" استمر النزاعات العنفية والعلاقات المتوترة بينها وبين الفصائل والقوى الأخرى المعارضة لنظام الأسد حتى مرحلة متأخرة قبل سقوط ذاك النظام.  

بناء على هذه المعطيات، ومن حيث الأهداف والممارسات، يمكن القول أن مسار هذا التنظيم ذي المشروع السلفي، الذي قاد عملية "ردع العدوان" والفصائل المتحالفة معه فيها، في مرحلة ما قبل سقوط نظام الأسد، يختلف جوهريا عن مسار الثورة السورية ذات المشروع الديمقراطي، وبالتالي لا يمكن اعتباره منتميا إلى هذه الثورة الديمقراطية؛ وهذا الحكم المنطقي يمكن أن نطلقه في محصلته النهائية، وإن اختلفت التفاصيل، على حلفاء هذا التنظيم في عملية "ردع العدوان"، الذين يشتركون معه في أنهم جميعهم ذوو توجهات "إسلامية سياسية"؛ وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن هذه الفصائل في استلامهم للسلطة لا يمكنهم الحكم اعتمادا على مبدأ "الشرعية الثورية"، المستمدة من ثورة لا ينتمون إليها، هي الثورة الديمقراطية، التي يختلفون عنها ومعها جدا في العقيدة والغاية والعمل.

وبهذا الشأن، يرى د. حازم نهار مدير "مركز حرمون للدراسات المعاصرة " سابقا، ورئيس تحرير مجلة "رواق ميسلون" التي تصدرها مؤسسة "ميسلون للثقافة والترجمة والنشر" لاحقا أنّ مصطلح “الشرعية الثورية” يُستخدم في سوريا كثيرا بصورة خاطئة أو بغية التسويغ، ويقول في ذلك: «لدينا ثورة انطلقت في آذار/ مارس 2011، واستمرت بضع سنوات واضحة المعالم (شعب في مواجهة سلطة شمولية)، ثم أصبحنا أمام حالة صراع عسكري بين الثورة وسلطة نظام الأسد، ثم تبخرت الثورة إلا من بعض الجزر الصغيرة، وأصبحنا أمام قوى مسلحة كان معظمنا (على الأقل في السنوات الأخيرة) يطلق عليها “سلطات الأمر الواقع” المرتبطة بأجندات إقليمية ودولية، وكانت معظمها متهمة بأنها أخذت الثورة إلى غير أهدافها وطموحاتها، ومنها “الجيش الوطني السوري” و”هيئة تحرير الشام” و”قوات سوريا الديمقراطية”، وغيرها. وهناك آلاف التصريحات والبيانات والبحوث والبوستات والمقابلات من قبل كثير من السوريين ضد هذه السلطات وممارساتها وأفكارها» ([25])، ثم يضيف: «السلطة الحالية موجودة في موقعها بحكم إنجازها العسكري الممتدح، إضافة إلى توازنات إقليمية ودولية مستجدة، وأداؤها لا يحتاج إلى تسويغ استنادا إلى مبدأ “الشرعية الثورية”، فهي ما زالت سلطة أمر واقع»([26]).

وهكذا يمكن بناءً على ما تقدم القول بأن السلطة الجديدة بناءً على ما كان عليه أصحابها في مرحلة ما قبل سقوط نظام الأسد، هي سلطة تفتقد في حقيقة الأمر إلى "الشرعية الثورية" الحقيقة، و"الشرعية الثورية" التي تشرعن حكمها اليوم هي شرعية زائفة باطلة؛ ومثل هذا الحكم سيبدو منطقيا وعادلا فيما لو حكمنا على أصحاب هذه السلطة بناء على وضعهم أثناء تلك المرحلة.

لكن مع ذلك، فالحديث لا ينتهي هنا قطعا، ولو أننا نظرنا إلى سلوك هذا السلطة الجديدة بعد استلامها للحكم، فسنجد من ناحية أنه لا يمكن القول عنها بأنها "سلطة ديمقراطية"، ولكن من ناحية ثانية هي لم تقِم "دولة أو إمارة سلفية"، بل تقترب بدرجة معينة من شكل الدولة الحديثة.

فهذه السلطة حتى الآن، وبصرف النظر عن ملابسات شرعيتها الثورية منطقيا، فهي عند اعتمادها على مفهوم الشرعية الثورية نفسه لشرعنة حكمها، فهي بذلك تكون قد اعترفت بـِ واعتمدت على مبدأ لا يتناقض مع الديمقراطية والحداثة، ولم تعتمد على مبدأ شرعنة سلفي أو ديني.

وهي ماتزال تعلن قبولها بالانتخابات، وقيام الدولة على الدستور الموافَق عليه شعبيا، كما وتعلن اعترافها بالتعددية السياسية والمعتقدية وبالمجتمع المدني، وتعلن أيضا احترامها لكرامة وحريات وحقوق الإنسان والتزامها بالمساواة بين المواطنين، والعديد من الأمور الأخرى المعتمدة في الدول الحديثة، وهذا ما هو مبين في الإعلان الدستوري الذي أعلنته هذه السلطة ([27]).

وإضافة إلى ذلك، فهذه السلطة شكلت مؤخرا حكومة حاولت فيها بمقدار معين أن تبدي ابتعادها عن اللون الواحد، واعتمادها بدلا من ذلك على الكفاءات وتمثيل التنوع في المجتمع السوري.

وعدا عن ذلك فالسوريون اليوم بشكل عام مايزالون ينشطون في تشكيل الأحزاب والتنظيمات المدنية والتعبير السياسي في القنوات الفضائية والوسائط الرقمية.

وهذا لا يستنفد كل الجوانب الحسنة التي تقترب فيها السلطة السورية الراهنة من شكل الدولة الحديثة، وتتفق بذلك من حيث المبدأ مع أهداف الثورة.

لكن بالمقابل، هناك أيضا الكثير من الأمور السلبية في سلوكها، التي يمكن اعتبارها ابتعادا عن حداثة الدولة وجنوحا نحو الاستبداد والتسلف وتناقضا مع مبادئ وأهداف الثورة، ومنها مثلا، أن الإعلان الدستوري أعطى للرئيس صلاحيات تكاد تكون مطلقة وتجعل منه حاكما فرديا، وقد وصفت منظمة "هيومان رايتس ووتش" هذا الإعلان- الذي أثار الكثير من الجدل وتعرض للكثير من النقد واعتبره الكثيرون من السوريين وغير السوريين مخيبا للآمال- بأنه "يعرض الحقوق للخطر"([28]).

وعدا عن ذلك، فهذا الإعلان الدستوري رغم أنه لا ينص على "إسلامية الدولة"، إلا أنه بنفس الوقت لا ينص على "ديمقراطيتها"، كما أنه ينص على أن الفقه الإسلامي هو المصدر الأساسي للتشريع وعلى إسلامية دين رئيس الدولة دون أن يشترط أن يكون هذا الرئيس سوري الجنسية بالولادة من أبوين سوريين، وهذا ما يمكن اعتباره إخلالا بالمساواة وتوجها نحو التسلف وبنفس الوقت إخلالا بالهوية والسيادة الوطنية؛ هذا إضافة إلى أن هذا الإعلان حدد الفترة الانتقالية بخمس سنوات، وهي مدة طويلة؛ وإلى أنه أعطى للرئيس صلاحية  تسمية أعضاء المحكمة الدستورية الجديدة، وإلى العديد من العيوب الأخرى التي يطول عنها وفيها الحديث([29]).

أما الحكومة الجديدة، فمن المآخذ عليها أن العديد من وزرائها اعتُمد في توزيرهم على مبدأ الولاء والانتماء إلى نفس الدائرة أو اللون، وليس على مبدأ الكفاءة؛ كما أن إشراك المرأة فيها كان قليلا جدا، فهي لا تضم إلا امرأة واحدة، وكذلك حال مشاركة الأقليات، إذ لا يوجد إلا أربعة وزراء من الأقليات أحدهم هو تلك الوزيرة نفسها.

وبالإضافة إلى ذلك، فـ "مؤتمر النصر" الذي عقده قادة الفصائل المسلحة العسكريون في دمشق في ‏30‏/01‏/ 2025، بشكل مفاجئ وبدون تحضيرات ومشاورات شعبية معلنة، والذي تم فيه تفويض أحمد الشرع برئاسة سوريا خلال الفترة الانتقالية، قد أعطى الشرع إضافة إلى ذلك صلاحيات تنفيذية ودستورية وتشريعية وقضائية كبيرة، وخوّله حتى بتشكيل المجلس التشريعي، أي بتشكيل السلطة التشريعية لهذه الفترة؛ كما أن القرار المتخذ في هذا المؤتمر بحل الأجسام الثورية والسياسية والمدنية المشكّلة خلال الثورة، بذريعة دمجها في مؤسسات الدولة يمكن اعتباره قرارا تعسفيا مناف للديمقراطية([30]).

ومن المآخذ أيضا على عمل السلطة الجديدة أنها تقوم بتعيين المسؤولين في مرافق الدولة، كالمحافظين وسواهم من المسؤولين، غالبا من لفيفها ذي اللون الواحد ([31])([32])، وهذا يطال حتى النقابات، التي يتم فيها تعيين قياداتها من قبل هذه السلطة، في الوقت الذي يفترض فيه وفق منطق وأصول العمل النقابي الحقيقي أن يتم انتخابهم انتخابا([33])([34]).

وهذه أمثلة وعينات لا أكثر من مثالب عمل السلطة الجديدة في سوريا، وليس جردا لهذه المثالب، وهي كما سلف الذكر يمكن اعتبارها مؤشرات على توجهات نحو تأسيس وتعزيز سلطة اللون الواحد المناقضة للديمقراطية.

وإذا ما وضعنا كل من تلك السلوكيات الإيجابية والسلبية التي تقوم بها السلطة الجديدة في مواجهة بعضها، فسنجد أن هناك تناقضا كبيرا بينها!

ولتفسير هذا التناقض، سنجد أنفسنا أمام تفسيرين:

اﻷول أن هذه السلطة الجديدة بسبب تعقيدات الوضع داخل سوريا بفواعله وظروفه المختلفة، التي يدخل في عدادها منشؤها وتكوينها السلفيين، لا يمكنها الحسم بين أي من الخيارين، لا باتجاه الدولة الحديثة ولا باتجاه الدولة السلفية، ولذا لا يسعها في الوقت الراهن إلا التذبذب، أو حتى التخبط بينهما، بانتظار تغير أو تغيير الظروف!

أما الثاني، فهو أن خيار الاستبداد المتسلّـّف هو ما تريده السلطة، ولكن ﻷنها تعلم أن هذا الخيار مرفوض بشدة وعلى نطاق واسع في الداخل والخارج، لذا فهي تحاول تمرير نهجها هذا تدريجيا، بالمناورة لكسب الوقت أحيانا وببعض الرتوش السياسية التجملية الحديثة في أحيان أخرى، في محاولة منها للوصول إلى حال تستطيع فيه أن تفرض أمرا واقعا!

وهكذا، في المحصلة يمكن القول إن السلطة الجديدة في سوريا اليوم تقع اليوم في نهجها وفي وضع ملتبس ومرتبك في الاختيار ما بين الدولة العصرية الحديثة والدولة الأحادية اللون المستبدة المتسلفة؛ وهذا ما يخلق إشكالية جوهرية كبيرة في ما يتعلق بشرعيتها ومستقبلها ومستقبل البلاد ككل كما سنبين في الفقرة اللاحقة.

 

 

10- بين الشرعية الثورية والرفضية الثورية:

يتبين مما تقدم أن السلطة السورية تتأرجح بين ثلاث خيارات هي:

1- المدنية الديمقراطية.

2- الاستبداد غير السلفي.

3- السلفية الاستبدادية.

والخيار الأول منها هو الخيار الوحيد الذي يمكنه أن يمنح هذه السلطة الشرعية الثورية خلال فترة حكمها، المفروض أنها مرحلة انتقالية مؤقتة، وبالتالي فبقدر ما تتبع هذه السلطة نهجا سياسيا يقترب أكثر فأكثر من الديمقراطية والدولة الحديثة فهي بذلك تكتسب الشرعية الثورية، بل والشرعيتين الوطنية والشعبية، أكثر فأكثر، لأنها بذلك تكون قد التزمت بالثورة عبر تبنيها لأهداف الثورة، وعملها لصالح الشعب والوطن.

وبالطبع، فالعكس بالعكس، وبقدر ما تبتعد هذه السلطة عن الديمقراطية، وتتجه نحو الاستبداد أو التسلف، أو نحو الجمع بينهما، فهي بذلك تتناقض مع الثورة، وتضر بمصلحة الوطن والشعب، وبذلك لا تكتسب أية شرعية ثورية أو وطنية أو شعبية.

والأمر لن ينتهي عند هذا الحد وحسب، فبما أن الميدان السياسي في أي بلد يتداخل بشكل جوهري مع الميادين الأخرى، الاجتماعي والأمني والاقتصادي، وسواها من الميادين، فيؤثر ويتأثر فيها بشكل شديد الفاعلية، فأية أغلاط أو مساوئ في هذا الميدان ستنعكس حتما بالقدر نفسه من السوء على بقية الميادين.

وفي بلد خارج من حرب داخلية طويلة مدمرة كسوريا، تحتاج السلطة الجديدة لمواجهة الكم الكبير من المشاكل المستفحلة المتعددة الصعد بالدرجة الأولى إلى اللحمة الوطنية بينها وبين كافة الأطياف في المجتمع السوري، وهذا لا يمكن تحقيقه إلا بنهج مدني ديمقراطي يتناسب مع التنوع والتعدد الاجتماعيين الموجودين في هذا المجتمع، ويعالج الشروخات الاجتماعية الحادة التي تسببت بها الديكتاتورية السابقة والحرب الداخلية التي أدت إليها.

أما انتهاج نهجا استبداديا أو سلفيا، فنتيجته الحتمية هي العكس، وهو سيؤدي إلى النزاع بين الجماعات المختلفة في المجتمع السوري، أو على الأقل سيولد كما إضافيا كبيرا من التناقضات والتوترات الاجتماعية، إضافة إلى الكم الكبير والحاد الموجود منها اليوم، بعد أكثر من نصف قرن من الاستبداد، وأكثر من أربعة عشر عام من الصراع العنيف، وسينشأ عن ذلك حالة اجتماعية شديدة الاضطراب، ولا يمكن فيها قطعا حل المشاكل المختلفة المتعددة المتفاقمة التي تحتاج إلى الاستقرار والتعاون.

وفي ختام نهج استبدادي، متسلف أو غير متسلف، ستجد السلطة الجديدة نفسها، إن هي اتبعت مثل هذا النهج، إما في حالة نزاع داخلي مدمر جديد ناجم عن هذه السياسة، وسيقتضي المخرج منه التخلص منها وعدم وتكرار غلطها أو جنايتها، التي لم تتعظ ولم تعتبر هي فيها من النظام الذي سبقها، أو ستجد نفسها في حالة فشل اجتماعي شامل، أيضا يقتضي الخروج منه الخلاص منها.

أي أنها في كلتا الحالتين ستكون في مواجهة رفض شعبي وثورة شعبية جديدة، وبذلك هي لن تخسر فقط الشرعية الثورية وغيرها من الشرعيات، بل علاوة عليه ستواجه "الرفضية الثورية والشعبية والوطنية".



11- خاتمة:

ما يمكن قوله كخلاصة في ختام هذه الدراسة هو أن مفهوم "الشرعية الثورية"، وهو مفهوم منطقي وعملي ومبرر عند انتصار الثورات وإسقاطها للأنظمة القائمة غير الصالحة، لا يعني، وكما سلفت الإشارة، تسليم "شيك على بياض" للقوة أو للقوى الثورية التي تصل إلى السلطة بعد تمكنها من هذا الإسقاط، ولا يعني إطلاق يد هذه "السلطة الثورية" الجديدة لتحكم كيفما تشاء.

فشرعية "السلطة الثورية" هذه تقوم أساسا على "شرعية الثورة" نفسها، والتي لا تكون "ثورة حقيقية مشروعة" إن كان هدفها هو مجرد إسقاط حاكم واستبداله بحاكم آخر، فالثورة الشرعية الحقيقية لا يكون هدفها مختصرا بتبدل شخوص أو فرق السلطة والحكم بآخرين وحسب، فالتبديل الثوري، وبالأدق التغيير الثوري، يعني بشكل جوهري تغيير "طبيعة نظام السلطة والحكم" بشكل جوهري، ويتم فيه التخلص من النظام الطالح بغية إقامة نظام حكم صالح محله.

وشرعية الثورة الحقيقية، تبنى على حق الناس في أن يثوروا على الحاكم المستبد الفاسد، بسبب استبداده وفساده، فإن لم يكن التخلص من الاستبداد والفساد هو الهدف الرئيس لهذه الثورة، وتركز اهتماما على تبديل الشخص أو الطرف الحاكم وانحصر فيه، فهذه الثورة فعليا تفقد هويتها وصفتها الثوريتين، وتصبح "مجرد انقلاب سلطوي" لا أكثر، وبالتالي، فـ "النصر الثوري الحقيقي" يتم فعليا عندما يصبح تحقيق "الحرية والعدل والصلاح" على مستوى المجتمع والدولة مضمونا، ولهذه الغاية تـُعطى "الشرعية الثورية" بالحكم لقوة ثورية معينة لتحكم بموجبه لمدة محددة بهدف ضمان نجاح الثورة في تحقيق ألأهداف التي قامت من أجلها.

وهذا يعني بأن "الشرعية الثورية" هي بطبيعتها دوما مشروطة تماما بالالتزام بمبادئ وغايات الثورة التي تُستمد هذه الشرعية منها، وبالتالي فـ "السلطة الثورية" التي تستلم الحكم بموجب هذه الشرعية تكون شرعية فعليا بقدر ما تلتزم بمبادئ الثورة وغاياتها، وبقدر ما تلتزم بالمهام المكلفة بالقيام بها بموجب هذه الشرعية، وبوقتية هذا التكليف؛ ولكنها تفقد شرعيتها إن هي لم تفعل كلا من هذه من هذه الأمور.

وفي الحالة السورية، حيث من غير الممكن في اللحظة الراهنة، بعد صراع عنيف طويل خـلـّف كما هائلا من الدمار المختلف الصعد في المجتمع والدولة السوريتين، القيام بنقلة فورية نحو "نظام ديمقراطي متكامل"، ولا بد لنا عمليا من "مرحلة انتقالية"، ولابد بالتالي من "سلطة مؤقتة" تحكم اليوم بموجب "الشرعية الثورية"، فهذه السلطة، لكي تكون شرعية فعلا، يجب عليها أن تلتزم بمبادئ وأهداف الثورة السورية، وبمعايير هذه الشرعية الثورية الممنوحة لها.

والثورة السورية عندما انطلقت كانت أهم شعاراتها "الله، سورية، حرية، وبس"، و"حرية للأبد غصبا عنك يا أسد"، و"واحد، واحد، واحد، الشعب السوري واحد".

ومن الجليّ تماما أنّ هذه الشعارات، لا يمكن أن تتحول أو تتجسّد في حقائق ووقائع إلا في دولة مواطنة ومساواة ديمقراطية؛ فلا حرية بدون ديمقراطية، ولا وحدة شعبية بدون حرية ومساواة ومواطنة حقيقية، وهذه كلها لا تتوفر ولا تـُضمن إلا بدولة ديمقراطية حقيقية.

ما يعني في المحصلة باختصار في سوريا اليوم أن "الشرعية الثورية تعني الالتزام التام بالديمقراطية"، والعكس بالعكس، وفي حال انتفاء هذا الالتزام تنتفي كل شرعية ثورية وغير ثورية معه.

 

مراجع البحث:

- المراجع العربية:

[1] - إ. ب. بلايبيرغ & إ. ك. بانتين، المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو.

2 - أحمد مختار وفريق عمل، معجم اللغة العربية المعاصرة، ط1، عالم الكتب، القاهرة، 2008.

3- الحكومات المؤقتة: دروس مستفادة ومبادئ توجيهية، مؤسسة دعم الانتقال المتكامل (IFIT) ، تشرين الثاني/نوفمبر 2020.

4 - الهادي العامر& بن خيرة أحمد &. بن عمار مصطفى، قراءة نقدية في مصطلح الثورة، مجلة قبس للدراسات الإنسانية والاجتماعية، المجلد 05، العدد 01، تموز/ يوليو2021.

5 - روبرت فوستر، ترتيبات الحكم المؤقتة في البيئات الهشة وبيئات ما بعد الصراع، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (IDEA) ،2021.

6 - سلامة موسى، كتاب الثورات، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2015.

7 - مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول،1989.

8 - م. روزنتال & ب. يودين وآخرين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1997.

- المراجع الأحنبية:

[1]- Aleksandar Marsavelski, The crime of terrorism and The right of revolution In international law, Connecticut Journal of International Law, Vol. 28, No. 241, 2013.

2 -The Concise Oxford Dictionary, Sixth Edtion, Oxford-At the Clarendong Press, 1976.

3- B. А. Глухих, C. М. Елисеев, Легитимность власти и революция, ДИСКУРС, 5 /2016.

4 - Н. С. Розов, Типы легитимности И проблема оправдания постреволюционной влясти, статья в сборнике статей, Институт философии и права СО РАН, Издательство "Учитель" (Волгоград) 2015.

 

 

[1] - الهادي العامر/ بن خيرة أحمد/ بن عمار مصطفى، قراءة نقدية في مصطلح الثورة، مجلة قبس للدراسات الإنسانية والاجتماعية، المجلد 05، العدد 01، ص 1017-1030، تموز/ يوليو2021.

[2] -أحمد مختار وفريق عمل، معجم اللغة العربية المعاصرة، ط1، عالم الكتب، القاهرة، 2008، ص.335- 336.

[3] - مجمع اللغة العربية، المعجم الوسيط، دار الدعوة، استانبول-1989، ص 102.

[4] - سلامة موسى، كتاب الثورات، مؤسسة هنداوي، المملكة المتحدة، 2015، ص 11.

[5]- Aleksandar Marsavelski, The crime of terrorism and The right of revolutionIn international law, Connecticut Journal of International Law, Vol. 28, No. 241, 2013, Pg. 266-267.

[6] - م. روزنتال & ب. يودين وآخرين، الموسوعة الفلسفية، ترجمة سمير كرم، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت 1997، ص 155.

[7] -The Concise Oxford dictionary,Sixth Edtion, Oxford-At the Clarendong Press, 1976, Pg. 965.

[8]-  B. А. Глухих, C. М. Елисеев, Легитимность власти и революция, ДИСКУРС, https://discourse.etu.ru/ru/arhiv/2016/5/108-114

[9]- أ. د. محمد باميه، الشرعية الثورية: كيف تحل مكان شرعية القضاء والدستور؟، بوابة جدلية، 21 حزيران/يونيو 2012، https://shorturl.at/dKLUe

[10] - Right of revolution – Wikipedia, https://en.wikipedia.org/wiki/Right_of_revolution

[11]- وليد القططي، "عجبتُ لمن لا يجدُ القوتَ في بيتهِ.. "، وكـالـة مـعـا الإخبارية، 03/09/2015، https://www.maannews.net/articles/796293.html

[12]- أ. د. محمد بامية، المرجع السابق.

[13] - Н. С. Розов, Типы легитимности И проблема оправдания постреволюционной влясти, Соционауки, https://www.socionauki.ru/almanac/monitoring_sm_2/020-041.pdf

[14]- المرجع السابق.

[15]- محمد باميه، المرجع السابق.

[16] - هبة محمد، "خبراء سوريون: الشرع رئيساً مؤقتاً للبلاد استناداً إلى الشرعية الثورية"، القدس العربي، ‏30‏/01‏/2025، https://shorturl.at/vr7ZH

[17] - صالح السنوسي، "الثورات العربية.. مأزق الصدام بين شرعيتين"، الجزيرة نت، ‏11‏/08‏/2013، https://shorturl.at/EwE83

[18]- محمد باميه، المرجع السابق.

[19]- عبد الرحمن الحاج، كيف تنتقل سوريا من الشرعية الثورية إلى الشرعية الشعبية؟، الجزيرة نت، 18‏/02‏/2025، https://shorturl.at/Ocr3z

[20]-  الحكومات المؤقتة: دروس مستفادة ومبادئ توجيهية، مؤسسة دعم الانتقال المتكامل (IFIT)، تشرين الثاني/نوفمبر 2020، ص1.

[21] -  روبرت فوستر، ترتيبات الحكم المؤقتة في البيئات الهشة وبيئات ما بعد الصراع، المؤسسة الدولية للديمقراطية والانتخابات (IDEA)،2021، ص 6.

[22] - المرجع السابق، ص 6-7.

[23] - إ. ب. بلايبيرغ & إ. ك. بانتين، المعجم الفلسفي المختصر، ترجمة توفيق سلوم، دار التقدم، موسكو، 1986، ص"17-18، 214-216، 220-221".

[24] - محمد باميه، المرجع السابق.

[25] - حازم نهار، "معنى الشرعية الثورية.. وذاكرتنا"، ملتقى العروبيين، ‏5‏/03‏/2025، https://arabiansforum.net/archives/74012

[26] - المرجع السابق.

[27] -  نص الإعلان الدستوري لسوريا 2025، الموسوعة - الجزيرة نت، 14‏/03‏/2025، https://rb.gy/kj7z9y

[28] - "سوريا..الإعلان الدستوري يعرّض الحقوق للخطر"، Human Rights Watch، ‏25‏/03‏/2025، https://bit.ly/4irsCO4

[29] - نص الإعلان الدستوري لسوريا 2025، مرجع سابق.

[30] - علي العبدالله، " قرارات مؤتمر النصر السوري"، العربي الجديد، ‏5‏/02‏/2025، https://bit.ly/3RixfPe

[31] - أهم التعيينات التي قامت بها الحكومة المؤقتة التابعة لهيـئة تحرير الشام بعد سقوط نظام الأسد، مراسلون سوريون _ Syrian Reporters، فيسبوك، 17‏/12/2024،  https://rb.gy/xcbfjm

[32] - محمد علي صايغ، من وحدة الدولة إلى وحدة السلطة، هيئة التنسيق الوطنية- فيسبوك، 29‏/03‏/2025، https://rb.gy/nqs2r7

[33] -حسن عيسى، "التعيين السياسي يعود إلى النقابات.. إشراف وتنظيم أم وصاية “بعثية” بختمٍ جديد؟"، هاشتاغ، 12‏/04‏/2025، https://bit.ly/4ieWddm

[34] -حسن إبراهيم & علي درويش & موفق الخوجة، النقابات أمام فرصة تاريخية في سوريا، عنب بلدي، 23‏/02‏/2025، https://bit.ly/4cuUiQt

 

 

مقالات الرأي التي تنشرها المؤسسة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة

-------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025

708.25 كيلوبايت

تابعنا على الفيسبوك

القائمة البريدية


تابعنا على تويتر

جميع الحقوق محفوطة للمؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025