المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام
لقاء تاريخي بين سوريا وأمريكا: تحول مفصلي بعد عقود من القطيعة

لقاء تاريخي بين سوريا وأمريكا: تحول مفصلي بعد عقود من القطيعة

لقاء تاريخي بين سوريا وأمريكا: تحول مفصلي بعد عقود من القطيعة

إعداد: د. محمد خير الوزير

فيما يلي أبرز النقاط:

 

ما حصل:

  • اجتمع الرئيس السوري أحمد الشرع برئيس الولايات المتحدة في واشنطن، في خطوة وصفها كثيرون بأنها «تاريخية»
  • عقب الاجتماع، أعلنت وزارة الخزانة الأميركية عن تعليق جزئي لمدة 180 يوماً لتطبيق بعض بنود قانون Caesar Syria Civilian Protection Act (قانون قيصر) على سوريا، مع استمرار بعض الاستثناءات لِما يتعلّق بالتعاملات المرتبطة بإيران أو روسيا.
  • في المحادثات طُرحت مسارات تعاون بين واشنطن ودمشق في مكافحة تنظيم الدولة الإسلامية – العراق والشام (داعش)، وأُشير إلى احتمال إدماج قوات ‎قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ذات القيادة الكردية ضمن مؤسسات الدولة السورية.

 

⚠️ لماذا الحذر؟

  • رغم أهمية الخطوة، يشير المحلّلون إلى أن الشرطية والجدولة الزمنية لهذه الشراكة «جذرية» بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وتشمل استثناءات صارمة تجاه إيران وروسيا.
  • من جهة ثانية، كثيرون يعتبرون أن هذه الخطوة تمنح الشرع نوعاً من الشرعية الدولية التي لم تحظَ بها سوريا منذ سنوات، مما يطرح تساؤلات حول مصير المرحلة الانتقالية، وضمانات حقوق الإنسان، والآليات التي ستُنفّذ فعلياً.

 

???? ماذا يعني الأمر لسوريا والمنطقة؟

  • فتح هذا التطوّر الباب أمام إعادة دمج سوريا في المنظومة الدولية، وخصوصاً في محور الولايات المتحدة، بعد سنوات من العزلة والعقوبات.
  • كما أنه قد يُحدث تغييراً في توازنات القوى الإقليمية، إذ إن إشراك قسد في إطار الدولة السورية أو رسم تحالفات جديدة في «الشرق الأوسط الجديد» بات متداولاً.
  • لكنّ التنفيذ سيكون محور المواجهة: ما الذي ستطلبه واشنطن تحديداً؟ ما الذي ستمنحه دمشق؟ وما دور روسيا وإيران في هذا المشهد؟

تمهيد:

الرئيس السوري أحمد الشرع يلوّح لمؤيديه أمام البيت الأبيض بعد لقائه مع الرئيس ترامب في 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2025. شهد البيت الأبيض في 10 نوفمبر 2025 لقاءً تاريخيًا جمع الرئيس الأمريكي دونالد ترامب والرئيس السوري أحمد الشرع – وهو أول لقاء من نوعه بين رئيس سوري والرئاسة الأمريكية منذ استقلال سوريا عام 1946. ويأتي هذا الحدث غير المسبوق بعد قرابة ثمانية عقود من القطيعة الدبلوماسية المباشرة، وفي أعقاب تحولات جذرية في سوريا تخللتها نهاية حكم عائلة الأسد الذي استمر لعقود، حيث انهارت قوات بشار الأسد أخيرًا في ديسمبر 2024 بعد حرب أهلية دامية منذ 2011. إن مجرد حدوث هذا اللقاء في قلب واشنطن يُمثّل نقطة فاصلة في تاريخ العلاقات السورية-الأمريكية، ويعكس بداية مرحلة جديدة غير مألوفة من التواصل بعد سنوات طويلة وصفت فيها دمشق بأنها دولة مارقة ووُضعت تحت طائلة العقوبات والعزلة الدولية.

السياق التاريخي: أول لقاء منذ عام 1946:

لتقدير أهمية هذا اللقاء، لا بد من فهم سياقه التاريخي. فقد نالت سوريا استقلالها عن فرنسا عام 1946، ومنذ ذلك الحين لم يُسجَّل أي لقاء رسمي في البيت الأبيض بين رئيس سوري ورئيس أمريكي. خلال حقبة الحرب الباردة وما تلاها، انحازت سوريا إلى المعسكر الشرقي وتحالفت مع الاتحاد السوفييتي ثم روسيا، فيما شاب العلاقات مع واشنطن توتر وعداء مستحكم. ورغم محاولات محدودة للتواصل – أبرزها لقاء الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون بالرئيس السوري الراحل حافظ الأسد عام 2000، ولكن خارج الولايات المتحدة – ظلّت أبواب البيت الأبيض موصدة أمام أي رئيس سوري لنحو ثمانية عقود. تفاقم هذا الجفاء مع اندلاع الثورة السورية عام 2011 وتحولها إلى نزاع دموي؛ إذ فرضت واشنطن عقوبات صارمة على نظام بشار الأسد بسبب قمعه العنيف للانتفاضة الشعبية وارتكابه انتهاكات واسعة لحقوق الإنسان. وهكذا، فإن اللقاء الحالي يأتي بعد تاريخ طويل من القطيعة والصراع بالوكالة، ما يفسّر وصفه بأنه لقاء “تاريخي” بكل معنى الكلمة.

ومن المفارقات أن بطل هذا التقارب غير المسبوق – الرئيس أحمد الشرع – لم يكن شخصية محسوبة يومًا على الدوائر الدبلوماسية التقليدية. فالشرع هو قائد سابق لفصيل هيئة تحرير الشام ذي الجذور المتشددة، وكان مصنفًا إرهابيًا لدى الولايات المتحدة نفسها حتى فترة وجيزة. لقد شارك الشرع في القتال ضد القوات الأمريكية بالعراق بعد 2003 تحت لواء تنظيم القاعدة، حتى أنه اعتُقل وأمضى سنوات في سجون أمريكية هناك. وفي الحرب السورية، برز اسمه تحت كنيّة أبو محمد الجولاني كزعيم للجماعات المسلحة التي خاضت أشرس المعارك ضد نظام الأسد. ورغم خلفيته تلك، نجح الشرع في حشد تحالف من الفصائل المتمردة وإطلاق هجوم خاطف أواخر 2024 أطاح بالنظام في دمشق، ليتم إعلان أحمد الشرع رئيسًا انتقاليًا للبلاد في يناير 2025. بناءً على ذلك، فإن هذا اللقاء التاريخي يُعزى أساسًا إلى هذه التحولات الداخلية الدراماتيكية في سوريا التي مهدت الأرضية لتغيير المشهد الدبلوماسي الراكد منذ أمد بعيد.

الأبعاد السياسية والدبلوماسية:

يحمل لقاء البيت الأبيض أبعادًا سياسية ودبلوماسية عميقة تتجاوز مجرد صور المصافحة البروتوكولية. فعلى صعيد العلاقات الثنائية، يمثل الاجتماع انعطافة من حالة العداء المزمن إلى محاولة بناء جسور حوار وتفاهم. وقد أعلنت واشنطن بالتزامن مع اللقاء عن تخفيف غير مسبوق لبعض العقوبات المفروضة على سوريا، حيث كشف وزير الخارجية الأمريكي ماركو روبيو عن تعليق إنفاذ بعض بنود “قانون قيصر” لحماية المدنيين لمدة 180 يومًا. هذا التعليق – وهو الأول من نوعه منذ فرض القانون في 2019 – يستهدف تسهيل جهود إعادة الإعمار في سوريا عبر السماح ببعض التعاملات المالية والاستثمارية، وإن بقيت الاستثناءات الصارمة قائمة فيما يخص أي تعاون يمسّ مصالح إيران وروسيا. بعبارة أخرى، أرادت واشنطن إرسال إشارة إيجابية حذرة: استعداد لمكافأة دمشق الجديدة على تغيير سلوكها، دون رفع كافة القيود دفعة واحدة وبشكل قد يفيد خصوم أمريكا الإقليميين.

على الجانب السوري، يُنظر إلى هذا التطور كخطوة أولى على طريق إنهاء العزلة الدولية واستعادة الشرعية الدبلوماسية. فمنذ اندلاع الحرب الأهلية، انقطع التواصل الرسمي بين دمشق ومعظم العواصم الغربية، وأغلقت السفارات أبوابها. أما الآن، فتلوح في الأفق إمكانية تطبيع تدريجي: سوريا لم تعد بالمنظور الأمريكي دولة منبوذة، بل شريك محتمل في ملفات إقليمية ودولية. وقد تحدثت التقارير عن اتفاق مبدئي على إعادة فتح السفارة السورية في واشنطن، بهدف تسهيل التنسيق الأمني والاقتصادي بين البلدين. كما أن انضمام سوريا إلى التحالف الدولي ضد تنظيم “داعش” بات أمرًا واقعًا، حيث أكد مسؤولون أمريكيون أن دمشق ستصبح العضو رقم 90 في هذا التحالف العالمي. هذه الخطوات تحمل دلالة رمزية ومادية على عودة سوريا المحتملة إلى الحظيرة الدولية: إذ بعد سنوات من العزلة، قد تجد دمشق نفسها مجددًا جزءًا من المنظومة الإقليمية والدولية الفاعلة – وإن كان ذلك مشروطًا بتحولات سلوكها الداخلي والخارجي.

علاوة على ذلك، مهّد اللقاء لتخفيف التوترات الإقليمية حول القضية السورية. فواشنطن التي قادت مسار عزل النظام السابق دوليًا تبدو الآن مستعدة لمنح القيادة السورية الجديدة فرصة لإثبات حسن النية. وفي الوقت ذاته، أبدت القيادة في دمشق حرصها على طرق أبواب المجتمع الدولي طلبًا للدعم في إعادة إعمار بلد مزقته الحرب وكسب اعتراف بشرعيتها الناشئة. وعليه، يمكن القول إن لقاء الشرع–ترامب هو إعلان ضمني بنهاية فصل الصراع الدبلوماسي مع الغرب وبدء فصل جديد قوامه البراغماتية: مقايضة تقوم على تخفيف العقوبات والعزلة مقابل تغييرات جوهرية في التموضع السياسي لسوريا وتحالفاتها الإقليمية. وبطبيعة الحال، سيأخذ تجسيد هذه الرؤية وقتًا ومفاوضات شاقة، إلا أن مجرد انعقاد القمة أطلق إشارة بأن باب التطبيع قد فُتح. وفي هذا الصدد، يرى مراقبون أن الأشهر القادمة قد تشهد مزيدًا من الخطوات الدبلوماسية – كاستئناف العلاقات مع دول أوروبية مهمة – إذا ما سارت مخرجات اللقاء في مسار إيجابي ولم تبرز عقبات كأداء في الطريق.

الموقف الأمريكي: حسابات ترامب وأهدافه:

بالنسبة لإدارة الرئيس ترامب، يمثل استقبال رئيس سوري في البيت الأبيض تحولًا استراتيجيًا مدروسًا، يهدف إلى خدمة جملة من المصالح الأمريكية في الشرق الأوسط. أول هذه الأهداف ترسيخ الانتصار على تنظيم “داعش” وضمان عدم عودة ظهوره. لقد سعت واشنطن منذ سنوات لقيام دمشق بدور أكثر إيجابية في مكافحة الإرهاب، والآن وجدت ضالتها في نظام جديد معادٍ بطبيعته لتنظيم داعش والتنظيمات المماثلة. بالفعل، أكد الجانب الأمريكي أن انخراط سوريا في التحالف الدولي ضد داعش سيكون حجر زاوية في المرحلة المقبلة، حيث أن انضمام دمشق رسميًا للتحالف يعزز شرعية الحرب على الإرهاب ويقوي التنسيق الميداني والاستخباراتي. من منظور ترامب، أن يتمدد التحالف ليشمل سوريا ذاتها بعد سنوات من اتهامها برعاية الإرهاب، هو نصر دبلوماسي يسجَّل له.

الهدف الثاني يتعلق بعزل النظام الإيراني وكبح نفوذه الإقليمي. فمنذ عام 2011، استغلت طهران الحرب السورية لترسيخ وجود عسكري عبر ميليشياتها، وجعلت من نظام الأسد حليفًا تابعًا يدين لها. أما الآن، فواشنطن ترى فرصة سانحة لـفصل سوريا عن المحور الإيراني-الروسي وضمها إلى المعسكر الآخر. وقد أشار تقرير لوكالة رويترز إلى أن سوريا ما بعد الأسد تحركت بخطى سريعة للابتعاد عن طهران وموسكو والاقتراب من تركيا ودول الخليج وواشنطن. فتحقيق هذا التحول في الولاءات هو مكسب جيوسياسي كبير للولايات المتحدة: فهو يحرم إيران من عمق استراتيجي مهم على البحر المتوسط ويضعف قدرتها على إمداد حليفها حزب الله في لبنان، كما يُفقد موسكو آخر موطئ قدم عسكري رئيسي لها في المنطقة. من هنا يمكن فهم حماس إدارة ترامب للتقارب مع الشرع – رغم ماضيه – على أنه رهان على تغيير خريطة التحالفات في الشرق الأوسط لصالح واشنطن وحلفائها التقليديين.

إلى جانب ما سبق، يسعى ترامب لحصد مكاسب سياسية وشعبية داخليًا وخارجيًا عبر هذه الخطوة. فعلى الصعيد الداخلي، يستطيع الرئيس الأمريكي الترويج لهذا التقارب بوصفه نجاحًا شخصيًا له في جلب السلام إلى منطقة عانت من الحرب والإرهاب، ومقارنة ذلك بسجل أسلافه. ولم يخفِ ترامب إعجابه بشخصية الشرع “القوية”، مصرحًا أمام الصحفيين: “إنه رجل قوي جاء من مكان صعب. يعجبني، وسنجعل سوريا تنجح بكل ما أتيح لنا”. هذه اللغة تعكس أسلوب ترامب في إبرام صفقات كبرى مع شخصيات يعتبرها قوية وقادرة، على غرار انفتاحه السابق على زعيم كوريا الشمالية. أما خارجيًا، فإن رعاية واشنطن لاندماج سوريا الجديدة في المنظومة الدولية قد تعزز صورة الولايات المتحدة كلاعب لا غنى عنه في صنع السلام بمنطقة الشرق الأوسط، خاصة مع سعي إدارة ترامب أيضًا لترسيخ وقف إطلاق النار بين إسرائيل والفلسطينيين في غزة. ويجادل مسؤولون أمريكيون بأن تخفيف معاناة الشعب السوري وإطلاق إعادة الإعمار سيسهمان في استقرار إقليمي أوسع، ويقللان موجات اللجوء والتطرف التي يمكن أن تهدد أوروبا وأمن العالم.

بالطبع، فتحُ ترامب هذا الباب لم يخلُ من الجدل في واشنطن. فهناك أصوات تحذّر من عواقب التعجل في شرعنة قائد ذو ماضٍ متطرف. وقد واجه الرئيس الأمريكي انتقادات من بعض السياسيين، حتى داخل حزبه؛ فعلى سبيل المثال أعربت نائبة جمهورية معروفة بتوجهاتها المحافظة عن استيائها من التركيز على الشأن الخارجي بدلاً من الداخلي. ورد ترامب بحزم قائلاً إن عليه كرئيس أن ينظر للصورة العالمية الأوسع لمنع اشتعال الحروب ووصول لهيبها للأراضي الأمريكية. هكذا يظهر أن القرار الأمريكي بمد اليد لدمشق الجديدة يستند إلى حسابات براغماتية تزن المصالح والأخطار: إدارة ترامب تريد حصد ثمار إسقاط عدوها الأسد دون السماح بقيام نظام معادٍ آخر مكانه. إنها مقاربة “ابق أصدقاءك قريبين وأعداءك السابقين أقرب” إذا جاز التعبير – أي احتضان النظام السوري الوليد بدل تركه فريسة للآخرين، على أمل توجيهه نحو تحقيق أهداف تخدم الرؤية الأمريكية للإقليم.

الموقف السوري: دوافع دمشق الجديدة:

من الجانب السوري، يحمل التقارب مع واشنطن أهمية حيوية وفرصة نادرة لإخراج البلاد من أزمتها الخانقة. يدرك الرئيس أحمد الشرع وفريقه أن رفع العقوبات الدولية وإعادة تأهيل سوريا اقتصاديًا هما طوق النجاة لإعادة إعمار ما دمرته الحرب خلال 14 عامًا. فقد بلغت تكلفة الدمار أرقامًا فلكية (يُقدرها البنك الدولي بأكثر من 200 مليار دولار)، واستحالت عجلة الاقتصاد السوري شبه متوقفة تحت وطأة العقوبات الأمريكية والأوروبية التي شلّت قطاعي الطاقة والاستثمار. من هنا، كان الهدف الأول لزيارة الشرع إلى البيت الأبيض هو المطالبة بتخفيف – إن لم يكن إلغاء – العقوبات المفروضة بموجب قانون قيصر لعام 2019. وقد ظهر الرئيس السوري الجديد مرتديًا بزّة رسمية أنيقة في مشهد غير مألوف لقائد ميداني سابق، ساعيًا لإقناع صانع القرار الأمريكي بأن طي صفحة العقوبات سيساعد سوريا على النهوض من تحت الأنقاض. وبالفعل، عاد الشرع وفريقه من واشنطن وفي جعبتهم تعليقٌ مؤقت لبعض العقوبات لـ 180 يومًا، على أمل أن يكون ذلك جسرًا نحو رفع دائم يخضع لإقرار الكونغرس الأمريكي لاحقًا.

أما الدافع الثاني لدمشق من هذا التقارب فيتصل بالشرعية السياسية داخليًا وخارجيًا. فالشرع يدرك أن سجله الماضي كقيادي متشدد يثير ريبة كثيرين، سواء داخل سوريا بين مكونات الشعب المختلفة أو خارجها لدى المجتمع الدولي. لذا فإن ظهوره إلى جانب رئيس الولايات المتحدة – الدولة التي طالما ناصبها نظام الأسد العداء – يمنحه دفعة هائلة من الشرعية بوصفه رجل المرحلة القادر على إنهاء عزلة بلده. وقد حرصت دمشق على تصوير اللقاء كاعتراف دولي بحكومتها الوليدة وانتصار دبلوماسي يضاهي الانتصار العسكري على النظام السابق. وعلى الصعيد الداخلي، من شأن الانفتاح على واشنطن وإمكانية تحسّن الأوضاع الاقتصادية نتيجة تخفيف العقوبات أن يعزز شعبية الشرع بين السوريين المرهقين من الحرب والفقر. فبعد سنوات كانوا فيها وقود صراع دولي على أرضهم، قد يشعر المواطنون أخيرًا بأن قيادتهم الجديدة قادرة على تأمين السلام وتحسين سبل العيش عبر المصالحة مع الغرب. هذا مهم خصوصًا لكسب قبول الفئات التي لم تكن مؤيدة لفصيل الشرع إبّان الحرب: فجزء كبير من الأقليات والطيف المدني في سوريا يتوجس من الإسلاميين، ولكن رؤية الدعم الأمريكي والدولي للحكومة الجديدة قد يبدد بعض مخاوفهم ويشجعهم على الانخراط في عملية سياسية وطنية.

في حسابات دمشق أيضًا، يوفر التقارب مع الولايات المتحدة فرصة للتخلص من حالة الاعتماد شبه المطلق سابقًا على إيران وروسيا. فعلى الرغم من الدعم الذي قدمته طهران وموسكو خلال الحرب، إلا أن دمشق الجديدة تدرك أن استمرار الارتهان لهما سيُبقي سوريا معزولة اقتصاديًا ويُعرّضها لعقوبات مستمرة. بالمقابل، فتح الباب مع واشنطن يعني جذب الاستثمارات الغربية والخليجية لاحقًا وعودة الشركات العالمية للمساهمة في إعادة الإعمار حين ترفع القيود. كذلك قد يضمن هذا التقارب تحييد أخطار خارجية كانت تهدد سوريا: فتركيا مثلًا قد تجد في تفاهم واشنطن-دمشق المستجد ما يطمئنها أكثر بشأن حدودها الجنوبية، وربما يدفعها للتعاون في تسوية ملف المقاتلين الأكراد (قسد) ضمن إطار يقبله الجميع. وأيضًا، التواصل مع الأمريكان قد يفتح قنوات غير مباشرة مع إسرائيل عبر وسطاء أمريكيين للوصول إلى تفاهمات أمنية تضمن تجنب الاحتكاك وتخفيف احتمالات الصدام في الجولان. لكل ذلك، ترى القيادة السورية في انفتاحها على الولايات المتحدة رهانًا ضروريًا لضمان استقرار حكمها الوليد: فهو يوفر الدعم الخارجي اللازم اقتصاديًا وسياسيًا، ويخفف الخصومات الإقليمية التي يمكن أن تستغل هشاشة الوضع الداخلي السوري.

رغم المنافع الواضحة، ليس خاليًا من المخاطر أن يمدّ الشرع يده لواشنطن. فهناك في الداخل السوري أطراف متشددة قاتلت تحت راية الشرع نفسها قد تعتبر هذا التقارب مساومة على المبادئ أو “خيانة” لخطاب العداء لأمريكا الذي تبنته الجماعات الجهادية لسنوات. كما أن قطاعات من السوريين الذين عانوا من الإرهاب ربما يصعب عليها تقبّل مشهد قائد له تاريخ في القاعدة يصافح زعيم العالم الحر. يدرك الشرع هذا جيدًا، لذا حرص منذ توليه على التخلي عن النهج المتشدد وإظهار نفسه كزعيم وطني جامع أكثر منه قائد فصيل إسلامي. ففي خطاب تنصيبه في يناير 2025، أعلن بوضوح أنه “ليس حاكمًا، بل خادمًا لوطننا الجريح” ودعا إلى حكومة شاملة وجديدة تعكس تنوع سوريا وتعد بانتخابات حرة ونزيهة في المستقبل. هذه الرسائل الداخلية تهدف إلى طمأنة الشعب بأن التقارب مع أمريكا ليس ارتهانًا وإنما وسيلة نفعية لتحقيق مصالح السوريين أنفسهم في الوحدة والنهضة الاقتصادية. وبذلك يسعى الشرع إلى إقناع أبناء بلده بأن توجهه westward لا يعني التنازل عن السيادة أو الهوية، بل هو تغير في التكتيك من أجل صالح الوطن، خاصة بعد أن أثبتت سنوات المواجهة العقيمة أنها لم تجلب سوى الدمار.

التحولات الإقليمية: توازنات جديدة بين إيران وروسيا وتركيا وإسرائيل:

لا تقتصر تداعيات اللقاء السوري-الأمريكي على طرفيه فحسب، بل تمتد لتشمل إعادة رسم التوازنات الإقليمية في الشرق الأوسط. فدخول سوريا على خط التقارب مع واشنطن يبعث برسائل متباينة إلى لاعبين إقليميين رئيسيين، وفي مقدمتهم إيران. لطهران، يُعد هذا التطور نكسة استراتيجية كبيرة: إذ فقدت إيران حليفًا عربيًا تاريخيًا شكّل ركيزة ما يسمى “محور المقاومة”، وخسرت موطئ قدم متقدم في بلاد الشام اعتادت استخدامه لنقل السلاح ودعم حزب الله اللبناني وتهديد إسرائيل. ومن المتوقع أن ترى القيادة الإيرانية في انفتاح دمشق على عدوها الأمريكي تهديدًا مباشرًا لنفوذها، خاصة مع تعهّد سوريا الجديدة بإبعاد نفسها عن فلك طهران. وربما ليس أدل على ذلك من أن التخفيف الأمريكي المحدود للعقوبات على سوريا استثنى صراحة أي تعاملات ذات صلة بإيران، في إشارة واضحة إلى أن أحد شروط واشنطن الضمنية هو تحجيم الوجود الإيراني في سوريا. وعليه، قد تلجأ طهران لعرقلة هذا المسار عبر أوراق الضغط المتاحة لها: فالميليشيات الحليفة لها المنتشرة في بعض مناطق سوريا يمكن أن تثير اضطرابات أمنية أو تهاجم قوات سورية أو أمريكية لإحراج الشرع وتقويض التقارب. كذلك قد تستخدم إيران نفوذها في لبنان أو العراق لخلق أجواء إقليمية سلبية تعيق اندماج سوريا في المنظومة الجديدة. ورغم أن قدرة طهران على المناورة محدودة في ظل أزمتها الاقتصادية الداخلية، إلا أنها لن تستسلم بسهولة لفقدان سوريا دون محاولة رفع كلفة هذا التحول على دمشق وواشنطن معًا.

بالنسبة إلى روسيا، الحليف الآخر التقليدي لسوريا، فإن المشهد الجديد يمثل خسارة نفوذ لكنه قد لا يصل إلى حد القطيعة الكاملة. موسكو كانت اللاعب الدولي الأبرز في الساحة السورية خلال العقد الماضي: أنقذت نظام الأسد بتدخلها العسكري عام 2015، وأقامت قواعد دائمة في حميميم وطرطوس. لكن انهيار حكم الأسد واضطرار خليفته الشرع لإعادة التموضع باتجاه الغرب يضع الكرملين أمام أمر واقع صعب. من ناحية، تجد روسيا أن سنوات استثمارها العسكري والدبلوماسي في سوريا تبخّرت نتائجها، وأنها مهددة بخسارة مواقعها الاستراتيجية على البحر المتوسط لصالح النفوذ الأمريكي. ومن ناحية أخرى، لا ترغب موسكو في دفع دمشق الجديدة بالكامل إلى أحضان واشنطن، وقد تسعى للحفاظ على شعرة معاوية معها. وبالفعل، كشفت تقارير أن الشرع قام بزيارة إلى موسكو في أكتوبر 2025 للقاء المسؤولين الروس، فيما فُسّر على أنه محاولة لتبديد المخاوف والتوصل لتفاهمات. ربما راهنت دمشق على طمأنة الروس بمنحهم دورًا ما في المرحلة المقبلة – كالمشاركة في مشاريع إعادة الإعمار – مقابل اعترافهم بالسلطة الجديدة وعدم عرقلتها دوليًا. وفي الوقت نفسه، تجد روسيا نفسها بحاجة لتجنب صدام مباشر مع الولايات المتحدة في سوريا في ظل انشغالها بأزمات أخرى (مثل أوكرانيا). لذا فمن المرجح أن نهج موسكو سيكون براغماتيًا: إبداء الامتعاض من التقارب السوري-الأمريكي علنًا، لكن التعامل معه بحذر سعيًا للحفاظ على ما يمكن الحفاظ عليه من مصالحها، وربما انتظار تغيرات مستقبلية قد تعيد فتح الباب أمام نفوذها.

على الضفة المقابلة، تركيا تبدو من أكبر المستفيدين من المشهد الجديد. فأنقرة دعمت فصائل المعارضة السورية طوال سنوات الحرب، وكانت على خلاف حاد مع واشنطن لفترة بسبب دعم الأخيرة لقوات قسد الكردية. الآن، تجد تركيا أن عدوها اللدود بشار الأسد قد رحل، وحلّ محله نظام سني له جذور إسلامية وبعض علاقات التنسيق السابقة مع أنقرة (خاصة أن هيئة تحرير الشام – جناح الشرع سابقًا – تسيطر على إدلب بدعم ضمني من تركيا). وعليه، من المتوقع أن تدعم أنقرة خطوات دمج سوريا مجددًا إقليميًا، لا سيما وأن واشنطن أشركت تركيا في الترتيبات الأمنية الجديدة. وقد شارك وزير الخارجية التركي هاكان فيدان في الاجتماعات التي جرت في واشنطن لبحث تنفيذ اتفاق دمج قوات قسد الكردية في الجيش السوري، ما يشير إلى سعي تركيا لضمان أن يؤدي هذا الدمج إلى تحجيم نفوذ المقاتلين الأكراد الذين تعتبرهم أنقرة تهديدًا لأمنها القومي. إن تعاون دمشق الجديدة مع أنقرة في هذا الملف – بوساطة واشنطن – قد يحقق لتركيا ما عجزت عنه عسكريًا: إبعاد شبح الدولة الكردية على حدودها وضمان وحدة الأراضي السورية تحت حكم مركزي مقبول تركيًا. كذلك، مع استقرار الأوضاع في سوريا، قد تتمكن تركيا من البدء بإعادة قسم من اللاجئين السوريين على أراضيها، ما يخفف الضغط الداخلي على الحكومة التركية. بالتالي يمكن القول إن تركيا ترى في صعود الشرع فرصة لإقامة علاقة جوار أكثر تعاونًا مع دمشق، بعد قطيعة وعداء في ظل الأسد. لكنها في الوقت نفسه ستظل يقظة حيال أي ترتيبات قد تمكّن خصومها الأكراد أو الإيرانيين على الأرض السورية، وستعمل عبر تنسيقها مع واشنطن ودمشق لضمان أن مصالحها الأمنية مصونة ضمن أي اتفاق مستقبلي.

أما إسرائيل، فهي تستقبل التقارب الأمريكي-السوري بمزيج من الارتياح والقلق. فمن جهة، زوال نظام الأسد الموالي لإيران يُعتبر مكسبًا استراتيجيًا كبيرًا لتل أبيب؛ إذ لطالما شكل المحور (إيران–سوريا–حزب الله) تهديدًا وجوديًا لإسرائيل عبر نقل الأسلحة المتطورة وتموضع القوات الإيرانية قرب الجولان. الآن، ومع وعد الشرع بإخراج سوريا من تحت العباءة الإيرانية، تتنفس إسرائيل الصعداء آملة في أن تنقطع طرق إمداد حزب الله ويقل التموضع العدائي عند حدودها الشمالية. بل إن الإدارة الأمريكية أفصحت عن دعمها لإبرام اتفاق أمني بين سوريا وإسرائيل في المرحلة المقبلة، وربما يكون المقصود ترتيبات تضمن الحفاظ على الهدوء في الجولان ومنع النشاطات المعادية لإسرائيل انطلاقًا من سوريا. مثل هذا الاتفاق – إن تحقق – سيعتبر اختراقًا نوعيًا يضاف إلى سلسلة اتفاقيات التطبيع الإقليمية التي شجعتها واشنطن (كمعاهدات أبراهام). لكن من جهة أخرى، لا تثق إسرائيل تمامًا بشخص أحمد الشرع وتاريخه. فهو بالنسبة لهم قائد سابق في تنظيم عدو (القاعدة وفروعها)، وقد حرصت الأوساط السياسية والإعلامية الإسرائيلية على التحذير من “الجهادي السابق” في دمشق. حتى أن تقارير في واشنطن – بدفع من لوبيات موالية لإسرائيل – دعت الكونغرس للتريث في رفع العقوبات نهائيًا عن سوريا الجديدة، مشيرة إلى الجذور العميقة للشرع في التيار الجهادي العالمي. هذا الموقف الإسرائيلي المتحفظ يظهر أيضًا في الحذر من إتمام أي تفاهم مع دمشق قبل اختبار نواياها ميدانيًا. فتل أبيب تريد ضمانات بأن الشرع سيمنع عودة نشاط تنظيمات معادية في الجنوب السوري، وأنه مستعد perhaps حتى لتقديم تنازلات تتعلق بالوضع في الجولان أو تطبيع العلاقات في نهاية المطاف. ولعل لقاء البيت الأبيض وما تبعه من تصريحات عن احتمال إعلان ما بخصوص سوريا وإسرائيل يشير إلى أن ملف تطبيع ما خلف الكواليس قد يكون مطروحًا. في المحصلة، تبدو إسرائيل مترقبة بحذر: ترحب بأي خطوة تبعد إيران عن حدودها، لكنها تضغط عبر واشنطن لضمان إبقاء الشرع تحت المجهر والتأكد من تبدل نهجه العدائي القديم قبل منحه المكافآت.

باختصار، يعيد اللقاء السوري-الأمريكي خلط الأوراق الإقليمية. إيران وحزب الله هم الخاسر الأبرز، بينما تركيا ودول الخليج العربي قد ترى فيه انتصارًا لمحورها السني وتعزيزًا لجبهة احتواء إيران. روسيا تخسر نفوذًا لكنها قد تسعى للبقاء لاعبًا عبر قنوات جديدة. إسرائيل تستفيد استراتيجيًا من إضعاف أعدائها لكنها قلقة من شخصية الحليف الجديد. وبين هؤلاء جميعًا، تقف الولايات المتحدة وقد استعادت زمام المبادرة في سوريا بعد أن تراجعت سابقًا، مثبتة لحلفائها وخصومها على السواء أنها لا تزال قادرة على صياغة النتائج في الشرق الأوسط لصالح رؤيتها. وفي ظل هذه التوازنات الجديدة، سيكون على كل طرف تكييف استراتيجيته مع الواقع المتغيّر: فالتقاربات والاصطفافات المقبلة ستعتمد إلى حد كبير على ما إذا كان مسار واشنطن-دمشق ماضٍ في ترسيخ نفسه وتوسيع دائرته، أم أنه سيتعثر تحت ثقل التحديات والتعقيدات العديدة المحيطة به.

التحديات: عقبات أمام ترجمة مخرجات اللقاء:

على الرغم من الأجواء التفاؤلية التي أحاطت باللقاء التاريخي، تواجه مسار التقارب السوري-الأمريكي جملة تحديات معقدة قد تعرقل تنفيذ ما اتُفق عليه أو إضعاف زخم الانفراج. فيما يلي أبرز هذه العقبات:

  • ملف قوات سوريا الديمقراطية (قسد): يُعد دمج المقاتلين الأكراد ضمن الجيش السوري الجديد اختبارًا صعبًا لمدى تماسك التفاهمات. فعلى الرغم من إعلان التوصل لاتفاق مبدئي بهذا الشأن منذ مارس 2025، لا تزال حالة عدم الثقة والتوتر تهيمن بين الطرفين. الأكراد يطالبون بضمانات لحكم ذاتي ثقافي وإداري ضمن سوريا الموحدة، فيما يرى بعض القوميين السوريين ومناصري الشرع أن تقديم تنازلات كبيرة لقسد قد يُضعف سيادة الدولة. وتزيد تركيا المشهد تعقيدًا، إذ تراقب عن كثب أي ترتيبات تخص أعداءها في وحدات حماية الشعب الكردية. وقد سبق أن تعثّر تنفيذ الدمج عدة مرات بسبب هذه التعقيدات. أي فشل في استيعاب قسد بسلاسة سيترك منطقة شمال شرق سوريا هشّة أمنيًا، وربما يدفع أنقرة للتدخل مجددًا، مما يهدد استقرار التفاهم الأمريكي-السوري الناشئ.
  • العقوبات وقرار الكونغرس الأمريكي: على الرغم من إصدار ترامب إعفاءات مؤقتة من بعض العقوبات لتشجيع دمشق، فإن الرفع الكامل لـقانون قيصر وسواه من القيود يتطلب موافقة السلطة التشريعية الأمريكية. هنا تكمن عقبة سياسية داخلية في واشنطن: فبينما يؤيد العديد من صانعي القرار إزالة العقوبات لتسهيل إعادة إعمار سوريا، يبدي آخرون تحفظًا شديدًا. بعض المشرعين الجمهوريين يريدون فرض شروط صارمة مقابل أي رفع دائم، تشمل مراجعات دورية لسلوك دمشق. كما تمارس جماعات ضغط نافذة – منها المؤيدة لإسرائيل – ضغوطًا لعرقلة ما تسميه “تسرعًا في مكافأة نظام ذي ماض متطرف”. لذلك فإن مستقبل الانفراج الاقتصادي مرهون بمعركة في الكونغرس قد تستغرق شهورًا أو سنوات. وإذا طالت فترة عدم اليقين هذه، فقد تحجم الشركات الدولية عن الاستثمار في سوريا، مما يعوق جهود الإعمار ويبدد الآمال الشعبية، وربما يضعف حماسة القيادة السورية للاستمرار في التزاماتها تجاه واشنطن.
  • النفوذ الإيراني وملف الميليشيات: على الأرض، لا تزال هناك بقايا نفوذ لإيران عبر مجموعات مسلحة لم تنخرط في التسوية الجديدة. هذه الميليشيات (مثل بعض كتائب الدفاع الوطني أو مقاتلي حزب الله المنتشرين على الأراضي السورية) قد تتحول إلى عناصر متمردة على السلطة المركزية إذا شعرت أن مصالح طهران مهددة. وقد تحاول إيران استخدامها لخلق بؤر توتر وضرب الاستقرار، سواء عبر استهداف القوات السورية الجديدة أو المصالح الأمريكية في سوريا. وأيضًا، يبقى التموضع الإيراني في جنوب سوريا ملفًا حساسًا: فإسرائيل لن تقبل استمرار تواجد أي عناصر موالية لطهران قرب حدودها، وقد تستمر في شن ضربات جوية وقائية كما فعلت مرارًا في الماضي. هذه الضربات بدورها قد تحرج حكومة الشرع أمام شعبها إذا لم تستطع منعها، أو تدفعها إلى مواجهات غير مرغوبة. بالتالي، تفكيك البنية التحتية للنشاط الإيراني في سوريا سيكون تحديًا أمنيًا ودبلوماسيًا دقيقًا: إذ يتطلب من دمشق الجديدة مواجهة نفوذ حليف الأمس القوي، مع الحفاظ على توازن يجنبها الدخول في صراع مباشر معه.
  • خطر عودة التطرف والإرهاب: رغم هزيمة تنظيم داعش عسكريًا، لا تزال الخلايا النائمة والفكر المتطرف كامنين. وقد كشفت تقارير أمنية عن إحباط مخططين منفصلين لتنظيم داعش لاغتيال الرئيس الشرع خلال الأشهر القليلة الماضية. هذه المحاولات تشير إلى أن فلول داعش تسعى لاستغلال الفراغات الأمنية والمرحلة الانتقالية للانتقام وإعاقة استقرار سوريا. وكذلك هناك تخوف من قيام جماعات متشددة أخرى – ربما من بين صفوف أنصار الشرع السابقين غير الراضين عن تحوله السياسي – بتنفيذ أعمال عنف أو تمرد. ولعل الحملة الأمنية الواسعة التي شنّتها وزارة الداخلية السورية عشية زيارة الشرع لواشنطن – واعتقلت خلالها أكثر من 70 مشتبهًا بانتمائهم لداعش – تؤكد إدراك الحكومة الجديدة لحجم هذا الخطر. لكن القضاء المبرم على التهديد الإرهابي سيتطلب وقتًا وتعاونًا استخباراتيًا عميقًا مع قوى كبرى كأمريكا، وأي اختراق أمني كبير قد يزعزع الثقة الدولية بسوريا ويعطي مبررًا للمتشككين للقول بأن التقارب لم يؤتِ ثماره في ضمان الأمن.
  • الانقسامات الداخلية وإرث الحرب: يواجه الشرع وحكومته تحديًا داخليًا كبيرًا يتمثل في رأب الصدع المجتمعي وبناء دولة لكل السوريين بعد حرب أهلية طاحنة قسمت الشعب على أسس طائفية وعرقية. ورغم الوعود بتشكيل حكومة جامعة، شهدت البلاد موجات عنف طائفي متفرقة بعد سقوط الأسد، أودت بحياة أكثر من 2500 شخص. هذه الأحداث الدموية – التي غالبًا ما تكون أعمال ثأر وانتقام – عمّقت الجروح وأثارت التساؤلات حول قدرة الحكام الجدد على فرض الأمن والعدل لجميع المكونات. فالأقليات التي كانت موالية للنظام السابق (كالعلويين مثلًا) تشعر بالقلق على مصيرها تحت حكم غالبية سنية منتصرة، وبعضها تعرض لاعتداءات انتقامية تزيد مخاوفها. في المقابل، عانت مجتمعات المعارضة سابقًا الأمرَّين من بطش النظام، وتطالب اليوم بمحاسبة رموز حقبته وعدم عودتهم للمشهد. تحقيق مصالحات وطنية حقيقية وتطبيق العدالة الانتقالية بصورة تضمن الحقوق وتطمئن كل طرف، هو تحدٍ هائل. فبدون مصالحة مجتمعية واسعة، سيظل النسيج الاجتماعي مهددًا بالتمزق، ما قد يغذي اضطرابات داخلية تعرقل جهود إعادة البناء وتسيء لصورة الاستقرار التي يحاول الشرع إبرازها أمام العالم.

إن هذه التحديات وغيرها – مثل ضرورة إجراء انتخابات حرة مستقبلاً للحفاظ على شرعية السلطة، وضمان عدم انزلاق البلاد مجددًا نحو الاستبداد أو الفوضى – تمثل حقول ألغام في طريق المسار الجديد. النجاح في تجاوزها سيتطلب قيادة حكيمة وقرارات شجاعة من دمشق، ودعمًا والتزامًا مستمرًا من واشنطن وبقية الشركاء الإقليميين. كما سيكون اختبارًا لمدى صلابة التفاهمات التي أُرسيَت في لقاء البيت الأبيض: فإما أن تصمد أمام العواصف وتثبت أنها أكثر من مجرد أقوال، أو أن تتداعى حال مواجهتها أول العقبات الكبرى.

الخلاصة والتوقعات: مسار سلام جديد أم مناورة سياسية؟

بعد استعراض ما سبق، يبدو جليًا أننا أمام منعطف مفصلي في تاريخ الأزمة السورية وعلاقاتها الخارجية. غير أن السؤال الجوهري الذي يطرح نفسه: هل يمثّل لقاء الشرع–ترامب بداية مسار سلام جديد ومستدام لسوريا والمنطقة، أم مجرد مناورة سياسية مؤقتة أملتها ظروف آنية وستتبخر مفاعيلها مع الوقت؟

هناك سيناريوهين محتملين للمستقبل القريب:

  1. مسار سلام جديد ومستدام: بموجب هذا السيناريو التفاؤلي، ينجح الطرفان في البناء على زخم اللقاء وتحويل التفاهمات إلى واقع ملموس. تواصل واشنطن رفع المزيد من العقوبات تدريجيًا، وتقدم الدعم الفني والأمني لسوريا للمضي في إعادة الإعمار وترسيخ الاستقرار. بالمقابل، يفي الشرع بوعوده فيبتعد تمامًا عن فلك إيران، ويُدمِج قوات قسد ضمن جيش موحّد، ويضبط حدود بلاده لمنع تسلل الإرهابيين أو تهديد الجيران. كما يمضي قدمًا في مصالحة داخلية حقيقية تُطمئن الأقليات وتدمج مختلف القوى الوطنية في نظام سياسي جديد أكثر تعددية. في هذا السيناريو، قد نشهد بعد عام أو اثنين عودة سوريا كاملةً إلى جامعة الدول العربية وإلى مقعدها في الأمم المتحدة دون اعتراضات، وربما إطلاق عملية سلام بين سوريا وإسرائيل بوساطة أمريكية تنهي حالة العداء الرسمية بينهما. ستكون سوريا حينها قد انتقلت فعليًا من خانة الدولة المنبوذة إلى شريك إقليمي مشروع، الأمر الذي سيترك أثره الإيجابي على مجمل توازنات الشرق الأوسط ويعزز الأمن الإقليمي. هذا المسار يتطلب مثابرة والتزامًا طويل الأمد من الجميع، لكنه ليس مستحيلًا إذا توافرت الإرادة السياسية واستمرت المصالح المشتركة التي جمعت واشنطن ودمشق على ما هي عليه اليوم.
  2. مناورة سياسية عابرة: أما السيناريو الثاني الأقل تفاؤلًا، فهو أن يتبين مع مرور الوقت أن ما جرى لم يكن سوى تقاطع مصالح وقتي بين ترامب والشرع، سرعان ما تعترضه حقائق الخلاف العميقة. في هذا التصور، قد تبرز خلافات جوهرية حول تنفيذ التعهدات: ربما يتعثر دمج الأكراد أو تقع مواجهات مع فصائل مدعومة إيرانيًا، فيُعيد ذلك عقارب الساعة إلى الوراء. وربما يفقد ترامب حماسه إذا واجه معارضة داخلية شديدة أو لم يلمس نتائج سريعة، خاصة وأن الانتخابات الأمريكية المقبلة قد تغير موازين السياسة (رغم أن ترامب حاليًا في ولايته الثانية). أيضًا قد يجد الشرع نفسه في موقف حرج داخليًا إذا لم تتحقق وعود الانفراج الاقتصادي بالسرعة المطلوبة، مما يغذي تململ الشارع أو حتى صعود متشددين يرفضون توجهه. في هذه الأثناء، قد تستغل قوى كإيران أو حتى روسيا أي تلكؤ لإعادة سوريا إلى دائرة نفوذها عبر إغراءات أو ضغوط، ما يضع الشرع أمام إغراء تغيير بوصلته مجددًا. إذا تفاقمت هذه العوامل، فليس مستبعدًا أن يتباطأ ثم يتوقف قطار التطبيع: قد تنتهي مهلة تعليق العقوبات دون تجديدها بسبب شروط الكونغرس، وربما تتجمد قنوات الاتصال رفيعة المستوى ويعود التوتر بشكل أو بآخر. في نهاية المطاف، قد يبقى الوضع السوري معلّقًا: لا حرب شاملة كما في الماضي، لكن لا سلام كامل ولا اندماج اقتصادي حقيقي. سيكون ذلك انتكاسة مؤلمة للسوريين بالدرجة الأولى، إذ تعني استمرار المعاناة وإن بأشكال أخرى، كما ستكون إخفاقًا للدبلوماسية الأمريكية التي راهنت على نهج غير تقليدي.

واقعيًا، من المرجح أن نشهد مزيجًا بين السيناريوهين. فالمسار الجديد انطلق ولن يعود بسوريا إلى عزلتها السابقة بسهولة، لكنه في الوقت نفسه لن يسير على خط مستقيم سلس. ستبقى هناك مطبّات وتراجعات وربما أزمات صغيرة تعترض الطريق. إن نجاح التجربة سيقاس بقدرة الأطراف على احتواء تلك الأزمات ومنعها من إفشال الهدف الأكبر. فإذا ما نظرنا للوحة الكبرى، نجد أن هناك مصالح قوية مشتركة تدفع نحو استمرار هذا المسار: الولايات المتحدة تريد فعلاً تحجيم نفوذ خصومها (إيران) وتثبيت الاستقرار الإقليمي، وسوريا الجديدة تريد الخروج من تحت الأنقاض ونيل الاعتراف والازدهار. هذه المصالح تمنح دافعًا لمواصلة التعاون حتى عند ظهور الخلافات.

في الخلاصة، يمكن القول إن لقاء أحمد الشرع ودونالد ترامب في البيت الأبيض قد فتح صفحة غير مسبوقة في تاريخ العلاقات السورية-الأمريكية، لكن كتابة فصول هذه الصفحة حتى نهايتها السعيدة لم تتم بعد. ما زال على دمشق وواشنطن والإقليم ككل خوض امتحانات دقيقة لإثبات أن ما حدث ليس مجرد مناورة سياسية عابرة أو صفقة تكتيكية، بل بداية سلام حقيقي ينهي واحدة من أشد حروب القرن الحادي والعشرين تدميرًا. سيكون على الجميع التحلي بالصبر والحكمة لترجمة اللحظة التاريخية إلى واقع يشعر به الشعب السوري الذي طال انتظاره للسلام، وتنعكس آثاره استقرارًا ورخاءً على منطقة أنهكتها الصراعات. وحدها الأيام المقبلة كفيلة بالإجابة الحاسمة: هل صنع ترامب والشرع السلام فعلاً، أم أن التاريخ سيصنف لقائهما كمجرد لفتة غريبة في سجل صراع طويل؟ نحن نأمل الأول بكل تأكيد، لكن الحذر يبقى سيد الموقف حتى إشعار آخر.

 

 

__________________________________________________________________

(للاطلاع على التقرير كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)

---------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025

 

4.16 ميغابايت

تابعنا على الفيسبوك

القائمة البريدية


تابعنا على تويتر

جميع الحقوق محفوطة للمؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025