تأثير السياسات الخارجية على الاندماج الاجتماعي وتسييس الهويات الفرعية
تأثير السياسات الخارجية على الاندماج الاجتماعي وتسييس الهويات الفرعية
إعداد: الباحث رشيد حوراني
تاريخ النشر: 2023/06/04
تبحث الدراسة موضوع الاندماج الاجتماعي في المجتمع العربي من منظور سوسيولوجي باعتباره عاملاً يضمن استمرار أيّ كيانٍ اجتماعيٍّ في الحياة، ويقوم على مبدأ المشاركة الفعلية والفعّالة للأفراد والجماعات في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سيما أن هناك مجموعة من المؤثرات التاريخية والسياسية أدت إلى عدم الاندماج الاجتماعي، وأن معظم دوله تشهد مرحلة تغيير كبيرة سببها سياسات التهميش والإقصاء والتوزيع المُشوّه للسلطة والثروة، وما أدّت إليه من انقسامات عاموديّة وأفقيّة، مُهدِدةً الدّولة بالتحول إلى ما دون الدّولة.
مقدمة:
يسعى الاندماج الاجتماعي إلى إزالة كافة الحواجز بين الجماعات البشرية المختلفة من أجل التكيّف الاجتماعي وتسهيل انخراط الأفراد في العملية السياسية العامة، وتعزيز العملية التشاركية، وإيجاد مساحات متساوية للعيش المشترك وتحقيق التكيف، من خلال التنسيق بين المجموعات ضمن المجتمع الواحد لتكوين نسيج اجتماعي متماسك، ويقع عاتق تحقيقه على مسؤولية الدولة، ورغم أن الحاجة إلى الاندماج معترف بها في العالم العربي، إلا أنّ الخطوات الحقيقية التي بُذلَت من قبل دُوله في هذا الصدد ما زالت ضئيلة، كما أنها تعاني تمايزاً على أساسٍ طائفيٍ تارة، وتمايزاً عرقياً تارةً أخرى، نظراً لما تعتمده الأنظمة السياسية العربية من إدغامٍ سياسي وإكراهٍ هوياتي يقوم على القسرية وتذويب الخصوصية الثقافية وإلغاء الفردية، وفرض هوية جمعية مصنعة سلطويا على مجموع السكان تؤدي إلى تفتت المجتمع[1].
تنبع أهمية دراسة الاندماج الاجتماعي في المجتمعات العربية من باب الاعتراف بدور تلك المجموعات انطلاقاً مما قدمته من انجازات وتاريخ عظيم أثرى الحضارة العربية، كابن بطوطة، وابن خلدون من الأمازيغ، واستعانة المسلمين العرب بالمسيحيين الأكثر علماً وتحضراً لإنجاز مشروع بناء الدولة في بلاد الشام[2]. ولتلافي ما يمكن أن تحدثه من حركات اجتماعية سياسية داخل كل جماعة تتبلور في تيار يسعى إلى تحقيق أهداف معينة إذا ما توفر له الحد الأدنى من الإطار التنظيمي؛ والتفاف عدد من أفراد الجماعة حوله.
أولاً: مفهوم الاندماج الاجتماعي، ومظاهره:
يأخذ مفهوم الاندماج الوارد في الدراسة معنى الآلية التي تمكن الأفراد من الانصهار في مجتمعاتهم بشكل يُعزز انتسابهم لمؤسسة الدولة، ومن هذا المنطلق يُقصد بالاندماج سوسيولوجيا على أنه "السيرورة الإثنولوجية التي تمكن شخصاً أو مجموعة من الأشخاص من التقرب والتحول إلى أعضاء في مجموعة أكبر وأوسع عبر تبني قيم نظامها العام وقواعده[3]، ولذلك يحتاج إلى شرطين متبادلين يظهر الأول في إرادة الإنسان ورغبته الذاتية وسعيه الشخصي للاندماج، ويتمثل الثاني في القدرة الاندماجية للمجتمع عبر احترام اختلاف الأشخاص وتمايزهم، كما يتكامل في أعضاء المجموعة الواحدة من حيث الوظائف التي يؤدونها لبعضهم بعضاً مثلهم في ذلك مثل تكامل أعضاء الجسد السليم في أداء وظائفها؛ بمعنى أنه تماثل واتساق في الفكر والعمل بين المواطنين[4]. واعتبر الباحث فيليب بيسنار في تلخيصه لنظرية دوركهايم حول الاندماج؛ أن كياناً اجتماعيا ما مندمج عندما يكون أعضاؤه:
- يمتلكون وعياً مشتركاً.
- يتفاعلون فيما بينهم.
- يشعرون أن لهم هدفاً مشتركاً يسعون إليه، ويتم دون أن يُسلب الفرد استقلاليته[5].
يظهر الاندماج من خلال مظاهر وصور متعددة أبرزها تحقيق التجانس المجتمعي ونجاح الأنظمة السياسية في تحقيق مطالب الاندماج الاجتماعي في البلد الواحد، الأمر الذي لم يتحقق في المجتمعات العربية، وعبّر عن نفسه بوضوح في صور الانفجار المجتمعي التي جاءت بعد المستجدات الرامية إلى التغيير في تلك المجتمعات، وعكَسَ عدم سعي الدولة إلى تدبير سياسي أكثر تشاركاً مع مكونات المجتمع المختلفة[6]. والإيمان بقوانين الدولة ومبادئها، وإقامة العلاقات الاجتماعية السليمة مع أفراد أو مع المحيط الاجتماعي، وسعي المواطن وفق هرم الاحتياجات الإنسانية المتدرج الذي وضعه العالم الأمريكي أبراهام ماسلو، حيث تنتظم الاحتياجات التي تحرك دوافع السلوك الإنساني بشكلٍ تصاعدي، قاعدته الاحتياجات الفيزيولوجية "المأكل والمشرب والجنس" لضمان بقاء الحياة واستمرار النوع، فإذا أشبعها تطلع نحو حاجته إلى الأمن، ليأتي بعدها بحثه عن حاجاته للعلاقات الاجتماعية ثم تقدير واحترام الذات وصولاً إلى "تحقيق الذات".
ووفقاً لذلك؛ تحرص النظم الاستبدادية على أن تُبقي شعوبها في أسفل هرم الاحتياجات الإنسانية، فلا تنشد سوى تحقيق ما يضمن بقاءها وأمنها، ولا تتطلع نحو الاحتياجات الأكثر رقياً والتي يمكن تفسيرها سياسياً ومجتمعياً بأنها تشمل احترام حقوق الإنسان وضمان الكرامة وصيانة مناخ الحريات والإبداع[7]، والعمل على تبني العديد من الثقافات للمكونات الاجتماعية، ما يسمح بالوقوف على ميزات كافة الثقافات والاستثمار فيها، ومع مرور الزمن تعمل الميزات الثقافية لكل ثقافة على تنمية بعضها وتصفية عيوبها، وصولاً إلى تحقيق التوافق على معايير ثقافية محددة، يؤمن بها الجميع ويدافعون عنها، ويشاركون في نشرها وتطويرها، وتؤثر عليهم، وتثقل ضميرهم الجمعي، وتُغير من سلوكياتهم واتجاهاتهم وتُبلور أفكارهم وترسم لهم مستقبلهم، وتُبعد التفكير النمطي المتمثل في إسباغ خصائص ثابتة على جماعة بشرية ما، وإلقاء اللوم عليها لأفعال وتصرفات لا علاقة لها بها.
ثانياً: العوامل الجاذبة والنابذة التي تتحكم بعملية الاندماج الاجتماعي:
تسعى البلاد العربية للتطور والتكامل، لكنها ما زالت مقيدة بالعصبية أو الفئوية أو الطائفية أو المصالح الخاصة التي تعيق التطور، وأن كل هذا يعود للأنظمة السياسية غالباً التي تسعى بشكل ما إلى فرض صورة معينة للمجتمع على الأفراد وتحاول صهرهم وتذويبهم ضمن أهدافها البعيدة عن روح الاندماج الحقيقي، وهو ما تَمثل بتغييب التيار القومي للتعدد الإثني، متجاهلاً أن الأمة مصالح عينية محددة وكيان اصطناعي تدعمه معطيات التاريخ متى توفرت، ولا تقلل من تحققه عندما تغيب، لأن تكون الأمة يتعلق بجملةٍ من العوامل السياسية والاقتصادية والثقافية في صورها العقلانية الواعية، من خلال قراءة جديدة للتاريخ العربي، والتصدي للتوترات المجتمعية المختلفة التي تتجه إلى تفكيك مكونات المجتمع العربي لا سيما في الشام والعراق، بإقرار التعدد الإثني والمذهبي واللغوي، وتأكيد مسؤولية الدولة في تحقيق الاندماج الاجتماعي والسياسي، وضمان التدبير التشاركي العادل بين المكونات المجتمعية[8].
كما تعتبر سلطة الدولة المعادية للمجتمع من العوامل النابذة للاندماج الاجتماعي حيث عدّ "جويل مجدال" أبرز الأكاديميين في الدراسات الدولية في جامعة واشنطن أن الدولة القوية بالنسبة إليه هي ذات التغلغل في مجتمعها، وعَكس ذلك تصبح الدولة ضعيفة وعاجزة عن تنمية مجتمعها وتحقيق مصالحه، وتتخذ موقفاً عدائياً منه وتناهض تنظيماته المدنية وأحزابه السياسية، وتنعدم فيه الثقة بالدولة، وتلجأ الدولة نحو تكريس الروابط العمودية القائمة على القبيلة والدين والانتماءات الإثنية الأخرى، ما يولد مجتمعاً ضعيفاً تتكرس فيه الإخفاقات السياسية والاجتماعية والثقافية، وينتشر فيه الفساد، ويعمل أفراده من أجل مصالحهم الشخصية، وتوزيع المكتسبات في ضوء انتماءات الأفراد الإثنية، ومدى قربهم من مركز السلطة[9]، إضافة إلى أن أفكار التسلط على بعض القطاعات في المجتمعات القائمة قابلة للتوسع لتصبح تسلطاً على المجتمع بأكمله، وعدم عقلانية المجموعات الصغيرة وسعيها للانفصال وما يشكله من خطر على الوحدة الوطنية في ظلّ غياب الوعي الجماعي للتعايش السلمي أو تضارب المصالح؛ مثلاً أدى التهميش الاجتماعي والاقتصادي و فشل النخب الحاكمة في تحقيق العدالة والتوازن بين المجموعات الإثنية إلى هوة عميقة داخل الدولة في السودان وأفرزت منظمات وأحزاب وجبهات تعمل من أّجل انفصال الجنوب عن الشمال.
يُعتبر التعدد أبرز العوامل الجاذبة للاندماج الاجتماعي كونه يُبرز القدرات والمهارات، من خلال التنافس الشريف (التسابق) في تقديم المساهمات المفيدة للمجتمع، والسعي المستمر نحو الوحدة؛ لأنّ الوحدة تُبنى على تعدّد وتنوّع عناصرها، ولولا التعدّد لاتكون للوحدة قيمة أو وجود في عالم البشر، وهذا السعي من أجل الوحدة يجعل المجتمع ينشد القوة والقدرة على مواجهة التحديات، وفي ذلك بقاء الحياة واستمرارها، كلّ ذلك يتوقف على الوعي الجماعي، وحسن إدارة المكونات المجتمعية، ويؤدي ذلك إلى الشراكة والتنافس الشريف تحت مظلة قبول الآخر.
إن العوامل التي تتحكم في عملية الاندماج الاجتماعي في العالم العربي على الرغم من حضور المقاربة السياسة والعثور على مقاربات اجتماعية واقتصادية في قلبها، إلا أن المقاربات الأخيرة على أهميتها "اجتماعية واقتصادية" في الأغلب تقوم بدور المتمم للمقاربة السياسية.
ثالثاً: تأثير الأقلية الوظيفية "المكون المجتمعي" على الاندماج الاجتماعي
يعود تحول الطائفية من ظاهرة دينية إلى ظاهرة سياسية إلى "نظام الملل" الذي سنته الدولة العثمانية تحت ضغطٍ أوربيٍ روسي، يعترف بموجبه لكل طائفة باستقلالها الداخلي، ثم أدى نظام الامتيازات العثماني إلى اختراق نظام الملل واستنجاده بالحماية الأجنبية وتوسيعه كصيغة قانونية دولية تستجيب لتوسيع نطاق التجارة الغربية وزبائنها ووكلائها[10]. وكرست القوانين الدولية لاحقا مسألة ما بات يعرف بـ "ظاهرة الأقليات"، حيث دعت اتفاقيات فيينا (1814 ــــ 1815) إلى الحرية الدينية والمساواة السياسية، وكثفت الحركة اليهودية نشاطها في الربع الأول من القرن العشرين، لحماية الأقليات عامة واليهودية منها خاصة، ومنحها المساواة في الحقوق المدنية والسياسية في الدول التي تنكر عليها هذه الحقوق، ونادت الحركة الاشتراكية العالمية بحق تقرير المصير عام 1918م، وأشارت اتفاقيات مؤتمر السلام في فرساي (1919 ــــ 1920)، في إطار عصبة الأمم، إلى الحقوق الثقافية والقومية للأقليات، ووضعت الأمم المتحدة إعلان حقوق الإنسان (1948م) الذي منع التمييز على أساس العرق أو الدين أو اللون أو الاتجاه السياسي، وصولاً إلى إعلان الأمم المتحدة الخاص بحقوق الأشخاص المنتمين إلى أقليات قومية أو عرقية أو دينية أو لغوية الصادر في 10 كانون الأول/ديسمبر 1999م، والعودة إلى هذه المعاهدات والمواثيق، تؤكد أن مسألة الأقليات كانت مندرجة دوما في النزاعات المحلية والإقليمية والدولية[11]، على الرغم من قيام الدول الحديثة التي صبت جهودها في التنمية وبناء دولة القانون وترسيم حدودها الجغرافية وتخصيص هوية وطنية لكل دولة يحملها أبناؤها المنتمون إليها.
تعمل الدول الكبرى في ظل النظام الرأسمالي العالمي على التركيز دومًا على الاختلاف وإبرازه كحالة خلافية دافعة للتنازع من أجل استمرار بسط النفوذ والهيمنة وتحقيق المصالح، واستثمرت في سبيل تحقيق ذلك الانفجارات والتغييرات التي ظهرت في أعقاب (الربـيع العربي) وإعادة صياغة الشرق الأوسط والانتقال من مفهوم "الدولة الوظيفية" إلى "الأقلية الوظيفية"، ففي سورية التمايز قائم بين العرب والكرد، ونموذج المحاصصة الطائفية في لبنان، وينطبق الأمر نفسه في العراق واليمن، ومردُّ ذلك عدة أسباب سواء كانت تنطلق من داخل الجسد كالمتعصبين والمتشددين، وممارسة السلطة انطلاقا من مرجعية مجتمعية وليس من منطلق وطني، وإخفاق الأنظمة في تحقيق الاندماج الاجتماعي، وسعيها لزرع التباعد بين أفراد المجتمع وفق مبدأ "فرق تسد"، أو التي تنطلق من خارجه لأسباب تتعلق بالهيمنة والنفوذ.
وتعول تلك المكونات العرقية والإثنية على مسألة تسيسها لأن موضوعها من الموضوعات النسبية التي يعتمد تحديدها على جغرافية كل أقلية، بمعنى أنه قد تعتبر جماعة أقلية في حدود جغرافية معينة، إلا أن هذه الجماعة نفسها هي أكثرية في دولة أخرى، وقادرة على التأثير خارج حدودها، ولتعويض الاقصاء والتهميش الذي نالها في حقبٍ سابقة، الأمر الذي يتطلب تأسيس مفهوم الوحدة الوطنية على حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، ومبادئ الحرية والعدالة والمساواة على أساس التماثل بين البشر في الذات الإنسانية، وتجاوز فكرة الأكثرية والأقلية، وتجاوز الطوائف إلى المجتمع والفرد، والاتفاق على نظرية سياسية مؤسسة وفق معطيات الراهن السياسي والاجتماعي والاقتصادي، وعدم إرجاء الأسباب كلها للعوامل الخارجية.
رابعاً: الارتدادات الناجمة عن العولمة:
دعمت سياسة الحفاظ على الاستقرار الاقليمي، وعدم السماح بتغيير الأوضاع التي اتبعتها الدول الصناعية الكبرى لتوفير شبكة حماية قوية للنظم التسلطية الناشئة في المنطقة العربية، وقدمت لها الغطاء السياسي الخارجي الذي يحميها من انتقاد الهيئات الدولية المعنية بانتهاكات حقوق الإنسان؛ ولم تساعد العولمة وتقدمها المجتمعات العربية على تجاوز النظم السياسية الشعبوية المفتقرة للمؤسسات الفعالة نحو إقامة نظم ديمقراطية تقوم على أساس الحق والقانون، بل قادت إلى تحلل الدولة الوطنية كمؤسسة سياسية قانونية جامعة لصالح عودة العصبيات الطائفية والعرقية، وبالتالي ستفقد المجتمعات أكثر من هامش مبادراتها الاستراتيجية، وتضطر إلى التخلي تدريجياً عن استقلالها الفعلي، وتراهن كما تراهن الأنظمة في ضمان استمرارها وتأمين حقوقها على القوى الخارجية والاحتماء بمواثيق حقوق الإنسان الدولية، وتوجيه النداءات المستمرة للحكومات والجمعيات المدنية العالمية لوقف الانتهاكات الدائمة لحقوق الأفراد والأقليات المتعددة وصولاً إلى المطالبة بالتدخل بشكل عملي لوضع حدّ للسياسات الاضطهادية لبعض النظم الخارجة عن أي قانون[12]. حيث يشمل الانتقال من النظرة المحدودة إلى الآفاق الأوسع الذي تحدثه العولمة بعدين مهميّن:
- إدراك المواطنين لذواتهم كأفرادٍ في الجماعات العالمية بأن مسؤوليتهم الاجتماعية لا تقف عند حدود بلدانهم؛ بل تتجاوزها إلى أطراف أخرى تستدعي الفعل وربما التدخل كما في حالات الحرب والصراع الأهلي و الإثني وانتهاكات حقوق الإنسان.
- أدت العولمة إلى تزايد المساعي لتشكيل الهويات التي تعتمد على الثقافات المحلية التي تشهد بدورها انتعاشا في كافة أنحاء العالم، بسبب التحولات العميقة في الطبيعة المتماسكة للدولة، وكذلك التحولات السياسية على الصعيدين الاقليمي والعالمي التي أدت بدورها إلى التخفيف من توجه الناس إلى الدول التي يعيشون فيها، ومثالها المسألة الكردية في العراق وسوريا، ومسألة الأمازيغ في المغرب العربي[13].
إن حاجة العولمة إلى سياسات منفتحة ومتكاملة، وإلى تطوير استراتيجيات تعاون إقليمي ودولي؛ أوقع الأنظمة العربية الحاكمة في تناقض عميق بين تبني استراتيجية الانفتاح الذي يتطلب العمل بقواعد العولمة في كافة مجالاتها، واستراتيجيات قُطرية مغلقة ومتراجعة في المجالات الاجتماعية والسياسية والثقافية، منعت بدورها من بناء مجتمع عربي قادر على الانخراط في العولمة والمشاركة في نشاطاتها الحقيقية، وأفرز عولمة سلبية تتحملها المجتمعات العربية دون أن تشارك في تقرير نوعية الاستجابة لها[14]، وأدى ذلك إلى تزايد المشاريع الدولية الرامية إلى إعادة الهيمنة الخارجية وإدخال الدول العربية بشكل إرادي وقسري في خطط تخرجها من دائرة تمركزها الذاتية "الشرق الأوسط الكبير – السوق الشرق أوسطية – الشراكة المتوسطية".
تشكل العولمة تحدياً للسياسات الاجتماعية والتنمية الاجتماعية في المنطقة العربية التي تمرُّ مجتمعاتها بمرحلة تغيير جذرية؛ تشكل بدورها تحدياً جدياً للبنى القائمة وتوازناتها الاجتماعية. كما أن الاستقطاب الاجتماعي إضافة إلى تفاقم عدم المساواة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أخذ يؤثر على نسيج المجتمعات العربية، وبالتالي أخذ يؤدي إلى حالة من عدم الاستقرار والإقصاء الاجتماعي، وبموازاة هذا الوضع أدى انتشار العنف في المنطقة إلى تفاقم المشاكل الاجتماعية في المنطقة.
خامساً: مستقبل الاندماج الاجتماعي
المراوحة في المكان؛ هي الحالة التي تعيشها مسألة الاندماج الاجتماعي في العالم العربي حالة المراوحة، رغم أن المفكر ياسين الحافظ لفت الانتباه مبكراً إلى مشكلة التناثر وضعف الاندماج في المجتمعات العربية، وأن توَلى مسألة الأقليات العناية التي تستحقها، من خلال التأكيد على علمانية الحركة القومية العربية ودولة الوحدة العربية والنضال لتطبيقهما، الأمر الذي سيفتح الباب أمام أرحب السبل لحلها من دون تأثير، مؤكدا على الفارق بين ما هو قومي " مجتمع يتمثل في ترابط بنيته وفي تدامج عناصره التكوينية"؛ وما هو أقوامي" مجتمع مفتت، وعناصره التكوينية متجاورة وغير مندمجة، ولا ينتج إلا فكًرا تقليديًا"، معتبراً القومية ليست تجميعًا لوحدات وكيانات مجزأة ومتراصفة ومتجاورة، بل هي عملية تاريخية نهضوية غايتها تأسيس المجتمع على أنساق اجتماعية عصرية ومتدامجة، وهي في الوقت نفسه عملية متعاكسة مع البنى الاجتماعية ما قبل الدولة المعاصرة[15]، أي إنها تتشابك إيجابًا مع المواطنة والديمقراطية، كما أخفقت محاولات النهوض العربي لأنه لم يرافقها حركة تنوير تخرج الناس من انتماءاتهم القبلية و التقليدية.
بناءً على ما قاله المؤرخ مارك بلوخ "البشر هم أبناء عصرهم أكثر من آبائهم" فإن أبناء عصرنا يحملون نوعين من الإرث "الأفقي مع الأجداد - والعامودي مع أبناء الجيل الواحد"، وبالتالي فإننا نتشارك مع من حولنا أشياء أكثر مما نتشارك مع أجدادنا، مما يخلق حاجة ملحة لتدارك الهوّة بيننا[16]، وبما أننا أبناء عصر السرعة والعولمة، وأن وجود المجتمع المدني يدين بشكل رئيسي في العالم العربي لحقبة العولمة، نظراً لما قدمته تقنية الاتصالات الجديدة من وسائل مكّنت الأفراد من الحصول على حد أدنى من حيز الاستقلال عن النظم التسلطية، وتشكيل تنظيمات حديثة تقوم فيها العلاقات على التعاقد بين ذوات حرة مستقلة، كان لا بد من وجود الفاعل الاجتماعي، نعني به بالدرجة الأولى وجود قوة اجتماعية، سواء أكانت طبقة أو مجموعة مهنية أو مجموعة مصالح تملك مشروعا خاصا بها بما يفترضه وجود هذا المشروع من وعي بالأهداف ومن مهام واضحة وإرادة مشتركة، وغياب هذا الفاعل يعني أيضا غياب أجندته الخاصة وبالتالي التضحية بمصالحه.
ومما لا شك فيه أن منظمات المجتمع المدني هي المنوط بها القيام بهذا الدور وتحليل التخلف الشديد الذي يميز أحوال المجتمع المدني العربي، وضبط التحولات الاقتصادية المعتمدة على إعطاء الأسبقية لمنطق السوق وإخضاعها لمعايير وقيم وغايات اجتماعية وإنسانية، لتؤدي إلى بناء هيئات ومؤسسات مستقرة، تعمل على تنشيط الحياة السياسية، وتوسيع دائرة المشاركة الشعبية في إدارة الشؤون العمومية التي كانت ولا تزال محور التنمية الاجتماعية، وتتحول إلى نقطة الارتكاز الضرورية لبناء هياكل ومؤسسات من طبيعة مدنية قائمة على الشراكة بين مواطنين متساوين في الحقوق والواجبات. ودون ذلك قد نجد أنفسنا أمام أحد أمرين أو كليهما معا:
- تعزيز السيطرة الأمنية واكتساحها لكل السلطات السياسية والعلمية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية معا، والنمو الملفت في عدد الأجهزة الأمنية متعددة الاختصاصات والنشاطات.
- تراجع صدقية العقد الوطني الضمني لصالح إحياء مصادر قيم التضامن والهياكل الاجتماعية القديمة التي سيطرت في حقبة ما قبل الوطنية "عشائرية – عرقية – إثنية".
ختاماً:
إن تعزيز المجتمع المدني وتمكينه من المبادرة والقيام بوظائف متزايدة، لا تعوض عن انحسار وظائف الدولة وتراجع دورها الاجتماعي فحسب، ولكنها تعيد تكوين الفرد والجماعة على أساس تنمية روح المبادرة والمسؤولية والتضامن والتعاون الجمعي أيضا، وفي الدول العربية يمر بناء الدولة القانونية عبر تفكيك الأجهزة الأمنية التي أصبحت العائق الرئيسي أمام تفتح حياة سياسية طبيعية، وبعدم استغلال وتوظيف الهويات الدينية والعرقية في الصراع السلطوي.
المراجع:
[1] مركز الروابط للبحوث والدراسات - نقمة التنوع في العالم العربي: فسيفساء قضت الطائفية على تجانسها – همام طه http://rawabetcenter.com/archives/22057
[2] مجلة الرافد - دور المسيحية المشرقية في حضارة العرب – ادوار حشوة http://www.alraafed.com/2017/09/30/13027/
[3] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات – محمد مالكي - الاندماج الاجتماعي وبناء مجتمع المواطنة في المغرب الكبير https://bit.ly/43KY0QF
[4] قاموس المنهل – تأليف د. جبور عبد النور ود. سهيل إدريس – بيروت دار العلم للملايين ص 561. https://bit.ly/43n1lFx
[5] مؤسسة مؤمنون بلا حدود – الاندماج الاجتماعي والديمقراطية: نحو مقاربة سوسيولوجية – فوزي بوخريص https://bit.ly/3qieTn4
[6] المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات - كمال عبد اللطيف – العرب في زمن المراجعات الكبرى: محاولات في تعقل تحولات الراهن العربي
[7] رصيف 22 – ثروت البطاوي - صناعة العدو: خديعة الأنظمة العربية للبقاء والتمدد https://bit.ly/3OTfVjG
[8] المرجع مكرر رقم /5/
[9] مركز تأسيس للدراسات والنشر – علي أبو إدريس – قراءة في كتاب الدولة في المجتمع لمؤلفه جويل مجدال
https://bit.ly/3NbpIAh
[10] قراءة في كتاب المسيحية المعاصرة لمؤلفه حنا سعيد كلداني http://www.mansaf.org/introductions.htm
[11] موقع سلام – إيمان شمس الدين - الاندماج الاجتماعي والأقليات: بين المواطنة و إدارة التقسيم الاستراتيجي https://salam-dhr.org/?p=2662
[12] العولمة وأثرها على المجتمعات العربية – د. برهان غليون – ص 16 – https://bit.ly/42o07IM
[13] كتاب علم الاجتماع لمؤلفه أنتوني غِدِنز – ترجمة وتقديم فايز الصياغ https://bit.ly/3qucPZe
[14] المرجع مكرر رقم 12
[15] الاندماج الاجتماعي والمواطنة والعلمانية قراءة في أفكار ياسين الحافظ https://bit.ly/42lL3vw
[16] مركز ليفانت للبحوث والدراسات – مراجعة كتاب الهويات القاتلة لمؤلفه – لونا وطفة https://bit.ly/3Ccbglt
____________________________________________________________________
(للاطلاع على الدراسة كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)
---------------------------------------------------------------------------------------
الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2023