خطاب الكراهية على الساحة السورية... أسبابه وصوره وآثاره
خطاب الكراهية على الساحة السورية...
أسبابه وصوره وآثاره
إعداد: د. محمد خير الوزير
تاريخ النشر: 2023/11/26
المحتويات
ثانيا: صور ونماذج لخطاب الكراهية. 3
ثالثا: الآثار الناجمة عن خطاب الكراهية. 4
رابعا: العوامل المؤثرة بخطاب الكراهية. 5
مقدمة
صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش بتاريخ 18 يونيو/ حزيران من العام الجاري، عندما احتفى العالم بـ "اليوم العالمي لمكافحة خطاب الكراهية"، بأن "خطاب الكراهية كجرس الإنذار، كلما تعالى صوته، زاد خطر الإبادة الجماعية. إنه يسبق العنف ويعززه"[1].
وباتت مسألة مناهضة خطاب الكراهية بكل أنواعها، الطائفية والمذهبية والعرقية والجندرية، خاصة في المجتمع السوري، واجب وطني وأخلاقي، نظرا لما يمكن لهذا الخطاب أن يُعيق الوصول إلى حل سياسي مستقر للقضية السورية، ويُعيق عملية إعادة بناء المجتمع ما بعد الحل السياسي، ويمنع تشكيل مستقبل إنساني جامع للسوريين بغض النظر عن دينهم ومذهبهم وعرقهم ومنطقتهم، وهويتهم، وثقافتهم، وجنسهم.
وأدت الثورة الرقمية الواسعة والمتطورة، إلى تحويل مواقع التواصل الاجتماعي المنصّة الاجتماعية الأولى، إضافة إلى وسائل الإعلام التقليدية التي لا يزال التلفزيون هو المهيمن فيها إلى حد كبير، لتحويل تلك المنصات إلى ساحات للتراشق والتعاطي مع خطاب الكراهية بكافة أشكاله وصُوره، وخصوصًا الشحن المذهبي والعرقي، دون الجنوح نحو ترشيد الخطاب، بما يمهد الطريق لحوار سياسي واجتماعي وثقافي، مبنيّ على قيم المواطنة وحقوق الإنسان وفضائل التنوع، في سبيل تحقيق السّلم الأهلي والعيش المشترك[2]، ولا يمنع هذا الحال من وجود منصات وتجارب ترتبط ارتباطًا مباشرًا بميول قوى سياسية أو جهات مجتمعية لإعلاء دور الحوار والمكاشفة ونشر ثقافة الوعي والسعي لمعرفة الآخر المختلف.
وصممت منظمة حقوق الإنسان التابعة للأمم المتحدة اختبارا من ستة معايير أساسية لتسهيل الوقوف على اعتبار التعبير يدخل في نطاق التحريض. ويتكون هذا الاختبار من المعايير التالي:
سياق التعبير: الذي يراعي النزاعات القائمة داخل المجتمع، ووجود وتاريخ من التمييز المؤسسي، وتاريخ الصدامات والنزاعات على الموارد، والإطار القانوني ومدى احترامه فيما يتعلق بحظر التمييز العنصري وإتاحة حرية التعبير وتوافر نظام قضائي فعال، والمشهد المتعلق بوسائط الإعلام من حيث الحرية والتعددية والتنوع.
المتحدث: بما يشمل مراعاة منصبه الرسمي، ومستوى سلطته أو مكانته الاجتماعية أو تأثيره على الجمهور، أو تقتضي وظيفته التعامل مع قطاعات واسعة من الجمهور مثل المعلمين، والأكاديميين، ورجال الدين والإعلاميين، وما إذا كان التصريح قد أدلى به الشخص بصفته الرسمية؛ فالسياسيون والمسؤولون العموميون أو الأشخاص ذوو المركز المماثل يتعين منحهم اهتمامًا خاصًا.
نية المتكلم: بالتحريض على الكراهية وليس مجرد الاستهتار أو الإهمال، وهو من أكثر المعايير صعوبة لأنه يتطلب اعترافًا صريحًا من المتحدث أو يمكن استنباطها من خلال أسلوب المتحدث، أهدافه، دوافعه هل مجرد نقد أو نقاش موضوعي أو سرد تاريخي لأحداث معينة.
محتوى التعبير، وضرورة شموله عناصر من قبيل (ماذا قيل؟ فالتعبير التحريضي يجب أن يتسم بدعوة مباشرة للجمهور- الجمهور المستهدف من حيث خلفيته الثقافية وهل يشعر بالخطر من الأفراد أو المجموعات المحرض ضدهم، مما يكون مبررًا لأعمال عنف استباقية بهدف الدفاع عن النفس - طريقة التعبير وتشمل اللهجة، ومدى استفزازيتها للجمهور المخاطب، والكلمات المستخدمة في التوصيف.
حجم التعبير وقوة انتشاره: بما يشمل وسيلة النشر (صحافة، وسائط سمعية بصرية، أعمال فنية، الانترنت)، الطبيعة العامة للتعبير أن يكون علنيًا في المجال العام، وتكرار النشر.
احتمال حدوث الضرر: وما إذا كان وشيكًا من حيث قدرة المتحدث على إقناع الجمهور، وتوافر الإمكانيات اللازمة لتنفيذ الفعل المحرض على ارتكابه[3].
نسلط الضوء في هذه الورقة على مفهوم خطاب الكراهية وأبرز صوره على الساحة السورية، والعوامل التي ساهمت في نموه وتزايده، والآثار الناجمة عنه بسبب استناده إلى القولبة النمطية، وشيطنة الأخر المختلف والمفاهيم الخاطئة المتعلقة في أغلب الأحيان بالأصل العرقي أو الدين أو الانتماء السياسي بما يتعارض مع قيم الديمقراطية والتعددية الثقافية.
أولا: مفهوم خطاب الكراهية
تعرف الأمم المتحدة خطاب الكراهية بأنه "أي نوع من التواصل، الشفهي أو الكتابي أو السلوكي، الذي يهاجم أو يستخدم لغة ازدرائية أو تمييزية بالإشارة إلى شخص أو مجموعة على أساس الهوية، وبعبارة أخرى، على أساس الدين، أو الانتماء الإثني، أو الجنسية، أو العرق، أو اللون، أو النسب، أو النوع الاجتماعي، أو أحد العوامل الأخرى المحددة للهوية ". ويتضمن أي شكل من أشكال التعبير، بما في ذلك الصور والرسوم المتحركة والميمات والأشياء والإيماءات والرموز ويمكن نشرها عبر الإنترنت أو خارجها[4].
والكراهية كما ترد أيضا في إحدى تعريفاتها بأنها المشاعر الانسحابية التي يصاحبها اشمئزاز شديد، نفور وعداوة أو عدم تعاطف مع شخص ما أو شيء أو حتى ظاهرة معينة، تعزو عمومًا إلى رغبة في "تجنب، عزل، نقل أو تدمير الشيء المكروه". ويمكن أن يبنى على الخوف من غرض معين أو ماضي سلبي نتج عن التعامل مع ذلك الغرض، ويمكن للناس أن يشعروا بالنزوع أو المشاعر أو الأفكار التي تستلزم الكره، كعلاقة الكره والحب. أحيانا يستخدم لفظ “الكراهية” عرضًا للمبالغة في وصف شيء لا يطيقه شخص ما، مثل شكل بناء معين، حالة طقس، وظيفة معينة وحتى بعض أنواع الطعام. وتستخدم كذلك لفظة الكراهية لوصف إجحاف أو حكم مسبق، تعصب أو إدانة تجاه فئة أو طبقة من الناس وأعضاء هذه الفئة[5]. وتعد والكراهية العنصرية والقومية والدينية والمذهبية والسياسية هي من أخطر أشكال هذه الكراهية ومن الممكن أن تسبب في تدمير كل البشر إذا استقرت وتحجرت في عقول الكارهين بدون حل لشفرتها ومسبباتها ووضع برامج شاملة لردعها وحصرها في نطاق محدود.
ويعرف أيضا بأنه الإشارة إلى كل أنواع الاتصالات، اللفظية أو غير اللفظية، المكتوبة أو المرئية، الذي من شأنه أن يحفز على التحيز والعداء ويستهدف شخصًا أو مجموعة من الأشخاص بسبب بعض خصائصهم الفطرية الفعلية أو المتصورة. ويُعبر عن مواقف تمييزية، أو تخويفية، أو مرفوضة، أو معادية، أو متحيزة تجاه تلك الخصائص والتي تشمل الجنس، أو العرق، أو الدين، أو الإثنية، أو اللون، أو الأصل القومي، أو الإعاقة. ويهدف إلى إلحاق الأذى بالمجموعات المستهدفة أو إزالتها ومضايقتها وترهيبها وإخضاعها للحط من قدرها وتهديدها وإحباطها، وإثارة البغض والوحشية ضدها. وهو كل كلام يثير مشاعر الكره والتنفير نحو مكون أو أكثر من مكونات المجتمع، وينادي ضمنًا بإقصاء أفراده إما بالطرد، أو الإفناء، أو بتقليص الحقوق، أو اغتيال الشخصية، ومعاملتهم كمواطنين من درجة أقل كما يحوي هذا الخطاب، ضمنًا أو علنًا نظرة استعلائية كأساس يمكن أصحابه من الشعور بالتميز والاستحواذ وامتلاك الحقيقة والحقوق[6].
وقد يتجاوز خطاب الكراهية أحيانا الحدود الجغرافية للبلد الواحد ليمتد إلى بلدان أخرى، كما هو الحال في النزاعات العرقية والدينية. ولا يوجد تعريف محدد متفق عليه لخطاب الكراهية لذا هو من أكثر الموضوعات إثارة للجدل والخلاف. وظهر المصطلح في الإعلام لأول مرة في الولايات المتحدة عام 1989 ليشمل المشكلات التي تتعلق بالخطاب العنصرى المؤذي الذي كان محصنًا بالقانون الأميركي تحت بند حماية حرية التعبير[7].
ثانيا: صور ونماذج لخطاب الكراهية
انهمكت السلطة في سورية في العمل على محاولة إخفاء آثار فشلها عبر تشديد القبضة الأمنية، حيث لم تتمكن من تنظيم علاقة سوية بين الدولة والمجتمع، وبين المواطن والدولة. ولم تركز على حل المشكلة من جذورها - أي إيجاد هوية سورية رئيسية جامعة بعيداً عن الإقصاء، ورغم أن كثيراً من السوريين على مختلف مشاربهم يشيدون بحالة الأمن التي كانت تتمتع بها سوريا، لكن الاكتفاء بالقبضة الأمنية فقط أدى إلى نشوء علاقة غير سوية بين المواطن والسلطة، علاقة هي أشبه بمزيج من الخوف من أجهزة السلطة وعدم الثقة بالقوانين، والكثير الكثير من الاتكالية والسلبية وغياب لروح المبادرة، وقد يفسر هذا بعض الظواهر الملحوظة في المجتمع السوري، ومنها: اعتبار التفاف المواطن على القوانين شطارة، وانتشار ثقافة الرشوة "ارشي بتمشي"، و بالتالي يصبح المواطن الثري مستثنى من تطبيق سلطة القانون، وشيوع فكرة التهرب من الضرائب لعدم معرفة المواطنين بأسباب دفع الضريبة، وبكيفية انعكاس أموال الضرائب خيراً على المجتمع، ناهيك بعدم التوازن بين دخل الفرد ومقدار الضرائب والجمارك ، إضافة إلى التهرب من دفع فواتير الكهرباء، والماء، والتلاعب بالعدادات. وحتى في الخدمة العسكرية الإلزامية فأغلب السوريين سمعوا، وقسم منهم طبق مقولة: "عسكرية دبر حالك". كل هذه الأمثلة تفسر سبب عدم شعور كثير من السوريين بأن "المواطن هو ابن الدولة"، وتفسر نوعاً ما سهولة انتشار خطاب الكراهية[8]، فالمواطن تمت برمجته على التنفيذ، ولم تتح له فرصة التعبير عن رأيه، وغالباً حين سيُطلب منه فجأة الاختيار ستكون أولى محاولاته خاطئة، وسيختار الأسهل، وبما أنه "لا شيء أسهل من الكراهية، أما الحب فيحتاج نفساً عظيمة"، كما يقول شمس الدين التبريزي، فقد اختار الكثيرون الكراهية!
وأشارت دراسة استندت على استبيان مؤلف من 55 سؤالاً تم توزيعها على 164 شخصاً في مختلف مناطق السيطرة، إضافة إلى الجلسات المركزة وعددها 3 حيث التقت بنشطاء وأكاديميين بما يخص حقوق الإنسان والأمن الرقمي. وتراوحت الفئات العمرية ما بين 18 وحتى 70، واستهدفت الحقوقيين والحقوقيات والأكاديميين، والأكاديميات، والناشطات النسويات، والطلاب، ومراكز الأبحاث، إلى أن هناك خلطاً واضحاً اليوم في سورية بين خطاب الكراهية وحرية التعبير، نظرا لغياب قوانين ناظمة لخطاب الكراهية في القوانين السورية وغياب المراجع العربية. ويقع التلفزيون الرسمي لنظام الأسد، في مقدمة المروجين لخطاب الكراهية، ومن ثم تلفزيون "أورينت" المعارض، وبالنسبة للصحف جريدة "تشرين" الأكثر استخداماً لعبارات كارهة، بينما كانت الراديوهات الوسيلة الأقل ترويجاً لخطاب الكراهية في القطاعات الثلاثة النظام والمعارضة والكورد، ومن ضمن أكثر الكلمات التي تحمل خطاب كراهية كلمات من مثل "أبويجية، عراعير، نسويات، فطايس، شبيحة، معارضي الكلب، حرائر المستخدمة عادة لدى فئة عمرية تتراوح بين 25 و40 سنة[9].
وبما أنه لغالبية السوريين عزيز قُتل في الحرب، وخطاب الكراهية نتاج وجود فعل القتل مع جهل الفاعل، فمن قُتل له قريب أو عزيز في أي منطقة، بنى نوعاً من الكراهية في داخله تجاه المنطقة تلك، وتالياً عنده كراهية تجاه كل ما يرتبط بها من بشر وحجر، وعلى هذا الأساس ستكون اللهجة واحدةً من خصائص المنطقة التي سيمارس تجاهها الكراهية، فما أن يسمعها حتى يتبادر إلى ذهنه أن يسخر منها بشتى الوسائل المتاحة في محاولة لإرضاء إحساسه بالكراهية تجاه المنطقة[10]. وبدأ يتحول هذا الخطاب المعادي إلى واقع في أرجاء سوريا كافة، حتى صار في مكان يولّد خوفاً لدى كثيرين حين يتنقلون من منطقة إلى أخرى، وهو إحدى المسائل التي يجب أن تكون أولويةً لدى المنظمات ومؤسسات المجتمع المدني النشطة في سوريا، بحيث يتم ترويض خطاب الكراهية كخطوة أولى لنبذه بشكل نهائي.
ويعد أيضا تصوير جميع من بقي في "البلاد / أو المعارضين" للنظام، وتحديداً في المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة، على أنهم "موالون / أو ارهابيون" وخارجون على القانون، وما يتبع تصنيفهم في عقول كلتا الشريحتين من السوريين في الداخل والخارج على أنهم "أعداء لبعضهم البعض"، بينما يشير الواقع الفعلي إلى غير ذلك، إلى وجود كثير من المعارضين والموالين غير المؤيدين لسياسات "النظام / المعارضة" في هذا الملف أو ذاك. إضافة إلى الترويج لطروحات تقسيمة وانفصالية غذَّت لسنوات مشاعر الكراهية بين بعض السوريين، سواء الخائفون على وحدة أراضي البلاد أو المنتمون إلى قومية أو طائفة، الذين جرى تصويرهم جميعاً مؤيدين لهذا الطرح أو ذاك، فالسواد الأعظم من الكورد مثلاً ليسوا راغبين في الانفصال، وإن كانت هناك شخصيات وتنظيمات سياسية تؤيد هذا الطموح بالخفاء. كما أن تصوير جميع المقيمين في الشمال السوري على أنهم متشددون ومؤيدون فكراً وممارسة للتنظيمات المسلحة والفصائل الموجودة هناك ليس صحيحاً[11].
وكل ذلك يعود لأن الرأي ليس ترفاً في بلدانا، والنزاعات الاجتماعية لا تحدث في سياق مناقشات فكرية، وضمن مؤسسات حيّز عام ديمقراطي مترسّخ، نظرا لانتشار الصراعات والنزاعات التي يصل الكثير منها حد إراقة الدماء.
ثالثا: الآثار الناجمة عن خطاب الكراهية
كشفت الثورة السورية التناقضات المسكوت عنها في المجتمع السوري، وأفضت إلى سلسلة متنامية من التشظّي الذي يختلف الناس في طرائق تلقّيه وتأويل أسبابه ونتائجه ومآله المستقبلي. وهو تشظٍّ يعكس تحوّلات بنيوية موجودة بالقوة، ورسخت سياسياً واجتماعياً عبر عقود طويلة، لتؤدي الثورة إلى انتقالها إلى الوجود بالفعل ضمن استقطاب حاد وغير مسبوق في التاريخ السوري. ويُظهر هذا الانقسام ثلاثة أطراف متناحرة في سوريا (الموالين للسلطة، والمعارضين لها أو - الثوريين / والمعارضين- وأصحاب الحياد السلبي)
وتتضمن الأطراف الثلاثة السابقة تبسيطا بنيوياً انقسامات ضمنية مشتتة تجعل الشروخ تحفر عمودياً فيما بدا لأول وهلة انقساماً أفقياً فحسب، حيث ظهر بعدٌ طائفي للصراع، ثم بدأ يظهر بعدٌ قومي بعد فترة من اندلاع الثورة، ليكون البعد الأعمق والمنسي في الأغلب هو البعد الطبقي القديم/ الجديد.
وعملت هذه الانقسامات، على رسم محاور الصراع وتمزق البنية الاجتماعية وتخلخل الرابط الوطني المفترض والهوية الوطنية الجامعة، ولا سيما عندما بدا أن هناك انقساماً حاداً وحساسيات متوارثة ومترسخة أيضاً بين مراكز المدن وأريافها، وحتى بين البلدات المتوسطة والصغيرة وتوابعها، وربما إلى حد كبير بين الأحياء الغنية، والضواحي، والعشوائيات المتبعثرة، والفقيرة.
كما تشكل شرخ غير قليل بين أهل الداخل السوري، بغض النظر عن مواقفهم واصطفافاتهم، وأهل الخارج من نازحين ولاجئين إثر الأحداث، ومن مغتربين قبل الأحداث في الأصل، وأصبح مكان الإنسان الجغرافي عاملاً معيارياً في تفسير الكثير من آرائه ومواقفه واتجاهاته، وفي تأويل متكرر يتراشق عبره كثيرون تهماً مغذية لجذوة الصراع والتشتت وإعادة نثر التوضعات في ما يبدو فعلاً عشوائياً بحتاً، حيث اتهم البعض ممّن في الخارج كل مَن بقي في سوريا بأنه "شبيح وموالٍ"، أو قابل للإذلال وعديم الكرامة والضمير، مقابل اتهام جميع مَن في الخارج من السوريين بالفرار المتعمد، واتهامهم بالخيانة وقبض الأموال بالدولار والتبعية لأجهزة مخابرات دولية[12].
وأدى استخدام مصطلح "سوريا المفيدة" للإشارة إلى المناطق الواقعة تحت سيطرة النظام، لتكون "سوريا غير المفيدة" هي إما ما تدعى "المناطق المحررة"، أو أغنى المناطق السورية بالثروات الباطنية والزراعية، أي منطقة الجزيرة السورية التي باتت تدعى اصطلاحاً "شرق الفرات". وتحكم هذه المناطق الثلاث سلطات مختلفة التباينات فيما يتعلق بتصريف حاجات الحياة المعيشية، وفي الأسعار، وفي العملة المتداولة أيضاً. إلا آن هناك قاسمًا مشتركَا بينها وهو القمع والاستبداد ومصادرة الحريات.
وأفضى تطور الأحداث ضمن البنية الضيقة للفاعلين السياسيين في الطرفين إلى اصطفافات تابعة للدول المحتلة لسوريا، أو المؤثرة إقليمياً وعالمياً على الملف السوري، فنجد في مراكز قوى السلطة في دمشق تيارات محسوبة على روسيا، وتيارات أخرى محسوبة على إيران، ونرى في قوى المعارضة مَن يُحسب على تركيا، ومَن يُحسب على السعودية، ومَن يُحسب على قطر.
لا يتوقف التشظي عند هذا الانقسام، بل يُنتج أتباعاً لكل تيار يتسمون بالحدّية والأصولية، فمن أقصى اليمين إلى أقصى اليسار نجد مَن يرفض الحل السياسي من جميع الأطراف، ولعلّ الموقف العنيف من الائتلاف السوري المعارض وهيئة المفاوضات واللجنة الدستورية يأتي أساساً من داخل خط الجمهور المؤيد للثورة، والذي ينطوي رأيه، في الغالب، على رؤية صراعية واختلافية حول أداء هذه القوى بين القبول، بدعوى ممارسة السياسة الواقعية بوصفها فن الممكن، والرفض الذي يبدو عريضاً ويصل إلى حدود التخوين والتهديد والوعيد.
بالمحصلة تعكس حالات التشظي المجتمعي تفكك الفكرة الوطنية السورية، على الرغم أن انفجار الثورات يأتي نتيجة انسداد المستويات السياسية والاجتماعية واستعصائها، والتغييرات الكبرى هي في جوهرها تحركات مكلفة ومُتطلبة إلى أقصى الحدود، نظرا لما تحدثه من تحولات جذرية في الأفراد والمجتمع.
رابعا: العوامل المؤثرة بخطاب الكراهية
يتأثر خطاب الكراهية صعودا وهبوطا بعملية التنشئة الاجتماعية[13] ومنظومة العوامل المتشابكة والمتداخلة التي تؤثر بها، ابتداء من ولادة الطفل ونشأته الأولى في البيت والأسرة متأثرة بعوامل مختلفة كالقسوة وعنف التربية والحرمان الطفولي في إشباع الحاجات المختلفة النفسية منها، كالأمن والأمان والاحترام والاستقلالية، وكذلك الحاجات المادية من تغذية مناسبة وملبس وسكن والخلو من الأمراض المزمنة وغيرها، ثم الدائرة الثقافية والبيئية ومدى غنائها بعوامل التنشئة الايجابية أو العكس، وما يسود فيها من عوامل القهر الاجتماعي العام الذي يتعرض له الأفراد، من اغتصاب للحقوق وعدم تحقيق العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص وعدم احترام الأقليات الدينية والعرقية والسياسية والفكرية، والتي تعد جميعها عوامل مولدة للعنف والعدوان والشر على نطاق واسع وعلى المستوى الفردي والاجتماعي وبمدى خطير يصعب التنبؤ بنتائجه الضارة.
ويؤثر النظام التربوي والتعليمي فيه باعتباره المصدر لمنظومة القيم والاتجاهات السلوكية المختلفة، ومدى إمكانياته في الاعتراف الفعلي بالشخصية الإنسانية وتنميتها على روح الحوار البناء وتقبل الآراء المغايرة،
ويعد العنف الذي واجه به النظام السوري الاحتجاجات الشعبية منذ مطلع العام 2011 سلوك مرفوض أخلاقيًا واجتماعيًا، وهو مؤشر خطير للتفكك الاجتماعي وزرع الخوف والقلق في الطرف الآخر الذي وقع عليه فعل العدوان، إلى جانب كونه وسيلة منبوذة لحل المشكلات لأنه يخلق عنفًا مضادًا فتتسع دائرة العنف كالنار في الهشيم في كل ثنايا ومكونات المجتمع[14].
وأدت ثقافة العنف والكراهية في مجتمعاتنا على المستوى الفردي والمجتمعي والسياسي نتيجة عدم الاستقرار السياسي التي مرت به الدولة السورية منذ بداية تأسيها، إلى إنتاج معقد لمنظومة العوامل الثقافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والنفسية والتي ألقت بظلالها الثقيلة في تشكيل هذا سلوك المعرقل لنهضتها في مختلف المجالات. وتؤسس نظرية المؤامرة في السلوك اتجاه الآخر، للكراهية والتحامل والعنف بين أفراد المجتمع الواحد، وكذلك في النظر إلى العالم الخارجي، دول ومجتمعات وأفراد، وقد نشأ سلوك المؤامرة في داخل المجتمعات الذي تجسده انعدام الثقة بالآخر والشك في نية أفعاله حتى وان كانت “حسنة” على خلفية انعدام الثقة التاريخي بين النظام السياسي وبين الشعب بصورة عامة، وبين النظام السياسي والأحزاب السياسية خارج النظام، وينشأ نتيجة لذلك فكرًا وسلوكًا إسقاطيًا، أي ما أفكر به أنا هو الصحيح وأتوقعه من الطرف الاخر وبالتالي يجب أن أقوم بضربة استباقية قبل أن يبدأ بها الطرف الاخر، مما يعزز اتجاه الكراهية والعدوان بين المنظومة المجتمعية بمكوناتها المختلفة[15].
ويشكل تدهور الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية من الأسباب القوية في زرع الكراهية والعنف في البنية المجتمعية، فانتشار الفقر وتدني مستوى الحياة وضعف الخدمات الاجتماعية من صحة وخدمات عامة، وكذلك ارتفاع نسبة الأمية الأبجدية والحضارية بين مختلف الفئات الاجتماعية وخاصة الفقيرة منها، واستشراء الفساد بمختلف مظاهره الإدارية والمالية والأخلاقية، وغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية واستئثار الحكم وحاشيته بالثروة الوطنية، جميعها عوامل تأسس للكراهية والحقد والعنف بين مكونات المجتمع.
كما لعبت التدخلات الخارجية التي أدت إليها الثورة السورية إلى اصطفافات تقوم في أساسها على الكراهية والحض على العنف، وتراشق السوريين فيما بينهم بتهم العمالة لهذا الطرف الإقليمي أو الدولي، أو ذاك، ومثاله الاصطفاف الذي أُفرز بعد التدخل التركي وصبغته القومية الحادة بين العرب والكورد[16].
الخاتمة
يعكس الحال في الواقع السوري أن خطاب الكراهية نشأ مستشريا على خلفية سياسية قمعية، وقفت أما التعرف على التنوع بين المكونات المجتمعية، وعند اختبار السلطة، ولا يعد هذا الاختبار الأول لها منذ تسلمها مقاليد الحكم مطلع سبعينيات القرن الماضي، إلا أن الاختبار مطلع العام 2011 كان شموليا واسعا ويجمع كافة ألوان الطيف الاجتماعي السوري، فلجأ النظام السوري إلى التلاعب بموقف المكونات الاجتماعية وادعاء حمايته لبعضها "الأقليات" وشيطنة بعضها الآخر "الكورد ومزاعم الانفصال".
كما أن سيطرته لعقود طويلة بأدواته ذات الطبيعة الإقصائية المتمثلة بالحزب الواحد ذو الصبغة القومية الوطنية الزائفة، وشنه حروبًا داخلية ضد كل الأفكار والتنظيمات السياسية المغايرة لتوجهاتها، مستخدما ذرائع الحفاظ على الوطن والوطنية وإنجاز التنمية الاقتصادية والاجتماعية تحت قيادته التاريخية والحكيمة والمخلصة للوطن هي وحدها فقط، مما حصر وكرس مفهوم الوطن والوطنية والبناء الاجتماعي بجهة سياسية واحدة تدعي المقدرة في قيادة المجتمع، وقد ترتب على ذلك القيام بحملات العنف والاعتقال والإبادة الجماعية لكل من يخالفها في الآراء والتوجهات السياسية وتخوين المعارضة السياسية والتشكيك بوطنيتها وزجها في غياهب السجون والمعتقلات.
كما استخدم كافة قدرات الدولة وإمكانياتها من مؤسسات إعلامية ومنظمات سياسية رسمية موالية من أجل تعبئة الناس وغسل أدمغتهم لأغراض احتكار السلطة والبقاء فيها وإشاعة الفساد الإداري والأخلاقي والمالي وممارسة الالتفاف والتلفيق والخداع والكذب كآلية للبقاء في الحكم، وخلق منظومة قيمية موالية لمنظومة الحكم، مما أدى هذا إلى خلق حالات من الكراهية والعنف بين شرائح المجتمع المختلفة، وخاصة بين الشرائح المنتفعة من النظام والشرائح الأخرى المتضررة منه. وهو ما نعيش آثاره في يومنا هذا.
[1] متلازمة الكراهية الدينية بين حرية التعبير وحرية الحرق – اندبندت عربية – أمينة خيري - https://bit.ly/3u6G9Hk
[2] خطاب الكراهية حطب الحرب – موقع تواصل – عمار الأشول - https://bit.ly/3QRzHNb
[3] المفوضية السامية لحقوق الإنسان وحرية التعبير حرية التعبير في مقابل التحريض على الكراهية: خطة عمل الرباط – الأمم المتحدة - https://www.ohchr.org/ar/freedom-of-expression
[4] ما هو خطاب الكراهية - موقع الأمم المتحدة - https://www.un.org/ar/hate-speech/understanding-hate-speech/what-is-hate-speech
[5] في سيكولوجيا الكراهية والعنف وتداعياته السياسية!! – موقع الناس - د. عامر الصالح http://al-nnas.com/ARTICLE/ASalih/16vn22.htm
[6] خطاب الكراهية وحقوق الإنسان – موقع مجلة دراسات في حقوق الإنسان – د. حنان أبو سكين - https://bit.ly/3QTMZsG
[7] خطاب الكراهية وخطوات لمواجهته من خلال أخلاقيات المهنة – شبكة الصحفيين الدوليين - https://bit.ly/49wzaYo
[8] خطاب الكراهية في سوريا.. من القصة السريرية إلى القيامة – روداو - ريزان حدو - https://www.rudawarabia.net/arabic/opinion/28102021
[9] باحثة سورية تدرس "خطاب الكراهية" ودوره في سوريا – زمان الوصل - https://www.zamanalwsl.net/news/article/116826/
[10] اللهجات السورية وجه لتنوّع جميل... وآخر لخطاب كراهية يتمدد – رصيف 22- محمود عبد اللطيف https://bit.ly/3QAJB4h
[11] هل يسقط خطاب الكراهية بين السوريين؟ - موقع قناة الميادين – زياد غصن - https://bit.ly/3QT2gd7
[12] تشظّي المنتظِرين... كي لا ينتقل العفن إلى كامل الجسد السوري مرةً تلو مرة – رصيف 22 – مازن أكثم سليمان https://bit.ly/46dTESR
[13] فالمجتمع يعاني من عنف بنيوي وعنف ثقافي.
[14] خطاب الكراهية بين جذوره الفردية وأسبابه السوسيوسياسية – موقع تواصل – عامر صالح https://bit.ly/3uqK8yh
[15] "نظرية المؤامرة" تقتل الضحايا مرتين في سوريا – صحيفة المدن - تهامة الجندي - https://bit.ly/3SOMpxx
[16] كي لا ينتقل العفن إلى كامل الجسد السوري مرةً تلو مرة – رصيف 22 – مازن أكثم سليمان https://bit.ly/46dTESR
____________________________________________________________________
(للاطلاع على الدراسة كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)
---------------------------------------------------------------------------------------
الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2023