بين موسكو ودمشق: التحديات القانونية والدبلوماسية في قضية محمد جابر المسؤول عن أحداث الساحل

بين موسكو ودمشق: التحديات القانونية والدبلوماسية في قضية محمد جابر المسؤول عن أحداث الساحل
المحامي فراس حاج يحيى/ باحث قانوني وسياسي
في مطلع عام 2025 وجدت العلاقات السورية الروسية نفسها من جديد أمام اختبار غير مسبوق، عقب اعتراف محمد جابر – القائد السابق لميليشيا صقور الصحراء – بمسؤوليته عن هجوم مسلّح دامٍ على الساحل السوري بتاريخ 6 آذار/مارس 2025٫ على قوات الامن العام الحكومية السورية التابعة لوزارة الداخلية٫ وذلك في لقاء تلفزيوني مباشر عبر قناة المشهد التي تبث من دولة الامارات العربية المتحدة وفي برامج يقدمه الإعلامي طوني خليفة بتاريخ 8 ابريل/نيسان 2025 ٫ وكانت الحصيلة النهائية لهذا التمرد المسلح أن أسفر ذلك الهجوم عن سقوط مئات الضحايا المدنيين، بينهم نساء وأطفال، ومئات الضحايا من قوى الأمن العام٫ في سلسلة أحداث هزّت سوريا خلال فترة انتقالية حساسة الاعتراف العلني وضع دمشق في موقف مُلحّ للمطالبة بمحاسبة جابر، الموجود حاليًا في موسكو، وأثار بذلك أسئلة جوهرية حول التحديات القانونية والدبلوماسية التي تواجه جهود تقديمه للعدالة. فيما يلي نستعرض الخلفية القانونية للتعاون بين سوريا وروسيا في تسليم المطلوبين، ونناقش الخيارات المطروحة أمام السلطات السورية والروسية، بما في ذلك العقبات المتمثلة في العقوبات وعامل الجنسية، وصولاً إلى خطوات مستقبلية مقترحة لضمان إحقاق العدالة في هذه القضية المعقدة.
أولاً: الخلفية القانونية لاتفاقيات التعاون في تسليم المجرمين بين سوريا وروسيا
في يوليو 2022، وقّعت سوريا وروسيا اتفاقيتين ثنائيتين للتعاون القضائي المتبادل، تتضمنان بنودًا واضحة بشأن تسليم المطلوبين والمساعدة القانونية في القضايا الجنائية. وتهدف هذه الاتفاقيات إلى تعزيز التنسيق بين الجانبين في ملاحقة مرتكبي الجرائم الخطيرة، وتسهيل تبادل الأدلة والمستندات، وضمان محاكمات عادلة ضمن احترام حقوق الإنسان.
بموجب هذه الاتفاقيات، أصبح لسوريا الحق القانوني في تقديم طلب رسمي لتسليم محمد جابر إذا توفرت أدلة جنائية كافية، مع إمكانية اشتراط روسيا ضمانات محددة مثل عدم تنفيذ عقوبة الإعدام. تنص الاتفاقية أيضًا على ضرورة أن تكون الجريمة الموجهة للمتهم معاقبًا عليها في كلا البلدين (مبدأ التجريم المزدوج)، وهو ما ينطبق في هذه الحالة بالنظر إلى أن القتل الجماعي والاعتداء المسلح من الجرائم المُجرّمة في القانونين الروسي والسوري.
وبحسب المادة 61 من الدستور الروسي، فإن تسليم المواطنين الروس إلى الخارج غير مسموح، ولكن الاتفاقية الثنائية تُبقي الباب مفتوحًا أمام تسليم غير المواطنين، كما تتيح آلية التحقيق والمحاكمة داخل روسيا إذا رُفض التسليم.
بالتالي، فإن وجود هذه الاتفاقية يمثّل حجر الأساس القانوني الذي يمكن للسلطات السورية البناء عليه في مطالبتها بتسليم محمد جابر أو محاكمته داخل الأراضي الروسية، وفقًا لمقتضيات التعاون القضائي الثنائي بين البلدين.
من جهة أخرى، تعتبر كلٌ من سوريا وروسيا عضوين في منظمة الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول)، والتي يمكن أن تشكّل قناة للتعاون في ملاحقة الفارّين. وتجدر الإشارة إلى أنه بعد سنوات من القيود، قام الإنتربول عام 2021 برفع الإجراءات التصحيحية التي كانت مفروضة على مكتب سوريا، ما أعاد وصل دمشق بشبكة الإنتربول الدولية. هذا القرار أتاح للجانب السوري تبادل المعلومات والطلبات مباشرةً مع أجهزة الشرطة في الدول الأخرى عبر الإنتربول. بالتالي، أصبح بإمكان السلطات السورية إصدار نشرة حمراء عبر الإنتربول بحق محمد جابر والمطالبة بتوقيفه احتياطيًا في روسيا تمهيدًا لإجراءات قانونية. ومع ذلك، يظل تعاون الإنتربول أداة شرطية تنفيذية وليس بديلاً عن الإجراءات القضائية؛ إذ يبقى تسليم الشخص المطلوب في النهاية رهينًا لقرارات سيادية تتخذها الحكومات المعنية وفق قوانينها الوطنية.
ثانياً: مدى إمكانية محاكمة مواطن روسي داخل روسيا على جرائم ارتُكبت في الخارج
على اعتبار أن محمد جابر يحمل الجنسية الروسية (إلى جانب كونه سوريًا)، فإن المسار القانوني يختلف جذريًا. فالدستور الروسي يحظر تسليم المواطنين الروس إلى أي دولة أجنبية، مما يعني أن موسكو – حتى لو أرادت سياسيًا التعاون – لا تستطيع قانونًا تسليمه لدمشق إن كان روسي الجنسية. في هذه الحالة، يكمن الحل البديل في محاكمته داخل روسيا بموجب القوانين الروسية على ما اقترفه من جرائم خارج البلاد. وهذا ليس أمرًا غير مسبوق تمامًا؛ فالقانون الروسي يجيز محاكمة المواطنين الروس على جرائم ارتكبت في الخارج إذا كانت تلك الأفعال مجرّمة في روسيا أيضًا ولم يُحاكموا عليها في الخارج. بمعنى آخر، يمكن للنيابة العامة الروسية نظريًا أن تفتح قضية جنائية ضد جابر عن جرائم القتل والاعتداء التي وقعت على الساحل السوري، وتقدّمه للمحاكمة أمام المحاكم الروسية، شرط توافر الأدلة الكافية وعدم صدور حكم قضائي بحقه في بلد آخر عن نفس الجريمة.
يستند هذا النهج إلى مبدأ الولاية الشخصية في القانون الروسي؛ فالمادة 12 من قانون العقوبات الروسي تنص على خضوع كل مواطن روسي يرتكب جريمة في الخارج للقضاء الروسي إذا كانت الجريمة تمس مصالح يعاقب عليها القانون الروسي ولم يكن قد حوكم عليها خارج البلاد. وقد طُبّق هذا المبدأ سابقًا في حالات تتعلق بمقاتلين روس تورطوا في أعمال إرهابية في دول أخرى وعادوا إلى روسيا، حيث قُدّموا للمحاكمة. ورغم عدم وجود سوابق كثيرة تتعلق بمحاكمة جرائم حرب ارتكبها روس خارج حدود روسيا، فإن منظمات حقوقية حاولت فتح هذا الباب قانونيًا؛ فقد شهد عام 2021 رفع دعوى غير مسبوقة أمام القضاء الروسي ضد عناصر من مجموعة فاغنر بتهمة ارتكاب جرائم حرب في سوريا. وعلى الرغم من صعوبة هذه المسار وتعقيداته، فإنه يظل خيارًا قائمًا: محاكمة جابر في موسكو كبديل عن تسليمه، خاصة إذا ثبت حمله للجنسية الروسية.
وبالتالي بسبب تمتع جابر بالحماية الدستورية للمواطن الروسي، لن تقدم موسكو على تسليم جابر دون إطار قانوني واضح. باختصار، إذا على اعتبار أن جابر روسي الجنسية فالمخرج القانوني الوحيد هو محاكمته في روسيا.
ثالثاً: ما الذي يمكن أن تقوم به السفارة السورية في موسكو؟
أمام هذه التعقيدات، يبرز الدور الحيوي للقنوات الدبلوماسية، وعلى رأسها السفارة السورية في موسكو. فمن خلال السفارة، تستطيع دمشق اتباع جملة من الخطوات لمحاولة جلب محمد جابر إلى العدالة:
- تقديم طلب رسمي: تقوم السفارة بإعداد ملف قضائي متكامل يتضمن الاتهامات الموجهة لجابر والأدلة المتوفرة (كتسجيلات اعترافه، وشهادات الناجين، وتقارير الطب الشرعي من مواقع المجزرة). ثم يُرسل هذا الملف عبر وزارة الخارجية الروسية كطلب رسمي لمساعدة قانونية. عادةً ما تتم طلبات التسليم أو الملاحقة القضائية عبر القنوات الدبلوماسية وفق الأعراف الدولية، بحيث تتسلمها وزارة الخارجية في الدولة المطلوب منها التعاون، وتحيلها بدورها إلى الجهات المختصة (وزارة العدل أو النيابة العامة(
- استصدار مذكرة توقيف دولية: يمكن للسفارة السورية، بالتنسيق مع مكتب الإنتربول بدمشق، أن تطلب من الأمانة العامة للإنتربول إصدار نشرة حمراء بحق محمد جابر. وبالفعل، بعد رفع الحظر عن مكتب سوريا عام 2021، بات بإمكان السلطات السورية إدراج أسماء المطلوبين في منظومة الإنتربول. صدور نشرة حمراء يعني أن محمد جابر مطلوب دوليًا، ويلزم السلطات الروسية (كغيرها من الأعضاء) توقيفه مؤقتًا.
- التواصل مع الجهات الروسية المعنية: تلعب السفارة دور الوسيط لمتابعة القضية مع كل من وزارة الخارجية الروسية ووزارة العدل والنيابة العامة. ويمكن أن تطلب السفارة عقد اجتماعات رسمية لبحث سبل التعاون القضائي، سواء لتسليم المتهم أو لمحاكمته في روسيا. في هذه الاجتماعات يمكن للمسؤولين السوريين تقديم ضمانات (مثلاً التعهد بمحاكمة عادلة، أو استعدادهم لتبادل سجناء روس محتجزين في سوريا إن وجد) لحثّ الجانب الروسي على التجاوب.
- الاستعانة بالدعم الدولي: رغم أن القضية ثنائية بين سوريا وروسيا، يمكن أن تلجأ دمشق عبر سفارتها إلى إطلاع أطراف دولية صديقة على مجريات الملف لحشد التأييد المعنوي. على سبيل المثال، إطلاع الأمم المتحدة أو منظمات حقوق الإنسان على فظاعة المجزرة التي اعترف بها جابر يمكن أن يولّد ضغطًا أخلاقيًا على موسكو للتعاون، ولو بشكل غير مباشر.
هذه الخطوات الدبلوماسية ليست مضمونة النتائج، لكنها أدوات تمتلكها الدولة السورية لمحاولة سد الفراغ القانوني. فالسفارة السورية تمثل ذراع دمشق في موسكو لمتابعة القضية يوميًا، والضغط باتجاه حل يحقق العدالة. وربما أهم أدوارها أيضًا منع محمد جابر من التحرك بحرية أو السفر إلى دولة ثالثة قد تؤويه؛ وذلك عبر إبقاء قضيته قيد أنظار السلطات الروسية والعالم حتى لا تتراجع أهميتها مع مرور الوقت.
رابعاً: الخيارات القانونية المتاحة للتعامل مع قضية محمد جابر
يوجد أمام سوريا وروسيا عدد من المسارات القانونية الممكنة للتعامل مع محمد جابر. يوضح الجدول التالي أبرز الخيارات المطروحة مع آلية كل منها والعقبات المرتبطة به:
العقبات والتحديات |
آلية التنفيذ |
الخيار |
على الرغم من وجود اتفاقية تسليم ثنائية ملزمة، قد ترفض روسيا التسليم خصوصًا أن جابر يحمل جنسيتها |
طلب رسمي سوري عبر القنوات الدبلوماسية وإصدار نشرة حمراء عبر الإنتربول لتوقيفه في روسيا. ثم نقله إلى القضاء السوري لمحاكمته هناك. |
تسليم محمد جابر إلى سوريا |
يتطلب أدلة قوية من دمشق وترجمة قانونية لها. روسيا لا تملك اختصاصًا تلقائيًا على جرائم وقعت خارج أراضيها إلا بحق مواطنيها بالتالي النجاح مرهون بإرادة سياسية روسية صادقة للتجريم. |
فتح تحقيق جنائي في روسيا ضد جابر عن الجرائم المرتكَبة في سوريا، استنادًا إلى الاعتراف والأدلة المقدمة من سوريا، ومحاكمته وفق القانون الروسي. |
محاكمة جابر أمام القضاء الروسي |
صدور حكم غيابي سيكون رمزيًا إلى حد بعيد ما لم يُنفّذ فعليًا. يواجه صعوبة في الإنفاذ دون توقيف المتهم |
قيام القضاء السوري بمحاكمة محمد جابر غيابيًا وإصدار حكم بحقه رغم وجوده خارج سوريا، استنادًا إلى ما يتوفر من أدلة وشهادات. |
محاكمة غيابية في سوريا |
كما يظهر أعلاه، كل خيار يحمل إيجابياته ومشكلاته. تسليم المتهم إلى سوريا يضمن خضوعه لقانون البلاد حيث وقعت الجريمة، لكنه حاليًا أصعب الخيارات تنفيذًا. المحاكمة في روسيا ممكنة قانونيًا (لا سيما أنه مواطن روسي) وتحقق العدالة بدون تسليمه، لكنها تتطلب تنسيقًا وثقة عالية بين النظامين القضائيين في البلدين. أما المحاكمة الغيابية في سوريا فتوفر إثباتًا رسميًا لذنبه وقد تُشكل ضغطًا معنويًا، لكنها لن تحقق غرضها ما لم يُقبض عليه في نهاية المطاف.
خامساً: غياب تحرّك من النيابة العامة السورية: تساؤلات حول الإرادة القضائية
رغم خطورة الاعترافات التي أدلى بها محمد جابر، والتي تتضمن إقراره المباشر بقيادة الهجوم المسلح على الساحل السوري في 6 آذار/مارس 2025، لم تُسجَّل حتى الآن أي خطوة رسمية من النيابة العامة السورية لفتح تحقيق قضائي أو إصدار مذكرة توقيف وطنية بحق محمد جابر وان كان يقيم خارج سوريا ٬ على الرغم من أن المادة ١٧ من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري منحته هذا الحق. هذا الصمت القضائي يثير تساؤلات جدية حول مدى الجدية والإرادة السياسية والقضائية في ملاحقة الجناة، خصوصًا إذا كانوا مرتبطين سابقًا بأجهزة أمنية أو ميليشيات موالية خلال سنوات الحرب.
وفي السياق القانوني ايضاً، يحق للنيابة العامة السورية –وفقًا للمادة 1 من قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري – التحرك من تلقاء نفسها، وفي حالة محمد جابر هناك وجود لا اعترافات علنية أو دلائل موثوقة على ارتكاب جرائم خطيرة تمس أمن الدولة أو سلامة المواطنين. فكيف يمكن تفسير تجاهل هذه الاعترافات الواضحة، التي بثّت في وسائل إعلام مرئية ومكتوبة وتناقلتها منظمات حقوقية دولية؟ أليس من مسؤولية القضاء الوطني أن يُبادر على الأقل بفتح تحقيق، حتى لو كان المتهم خارج البلاد؟
إن استمرار هذا الغياب القضائي يضعف موقف سوريا دوليًا، ويمنح المشتبه به مساحة للمناورة القانونية. كما أنه يُضعف حُجج السلطات السورية في مطالبة روسيا بتسليمه أو بمحاكمته لديها، إذ يمكن للجانب الروسي الادعاء بعدم وجود أساس قانوني كافٍ من الجهة الطالبة. لذلك، فإن إصدار مذكرة توقيف قضائية سورية ضد محمد جابر يمثل خطوة أولى ضرورية واستراتيجية، ليس فقط لإثبات الجدية في ملاحقته، بل لتأطير المساعي الدبلوماسية ضمن إجراءات قانونية سليمة يمكن البناء عليها أمام أي جهة أجنبية أو دولية٫ ولتدعيم موقف عمل لجنة التحقيق السورية المستقلة التي كلفها الرئيس السوري أحمد الشرع في التحقيق في أحداث الساحل السوري.
سادساً: خطوات مستقبلية مقترحة لضمان العدالة في القضية
رغم التعقيدات، لا بد من رسم خارطة طريق مستقبلية تسعى لضمان عدم إفلات مرتكبي محرضي أحداث الساحل السوري من العقاب. فيما يلي بعض الخطوات الاستراتيجية التي يُقترح على الجهات المعنية اتخاذها للمضي قدمًا في تحقيق العدالة:
- تعزيز التعاون القانوني الرسمي: ينبغي العمل على تعزيز آليات تطبيق الاتفاقية الثنائية بين سوريا وروسيا لتسليم المجرمين، والتي من شأن تفعيلها وضع إطارًا واضحًا لحالات مماثلة وتسهّل الإجراءات في قضية جابر نفسها، ويمكن تضمين بنود خاصة بمعاملة المحكومين وضمانات المحاكمة العادلة لتبديد أي مخاوف.
- تقديم ملف قانوني متكامل ومهني: على الجانب السوري تجهيز ملف قضائي عالي الاحترافية بشأن محمد جابر، يحوي كافة الأدلة المادية والتقنية والشهادات الموثوقة حول دوره في هجمات 6 آذار. كلما كان الملف قويًا ومدعومًا بتقارير خبراء جنائيين مستقلين (مثلاً منظمات دولية وثّقت المجزرة، ازدادت فرص إقناع السلطات الروسية بالمضي قدمًا في المحاسبة، سواء بتسليمه أو محاكمته محليًا. يُستحسن إشراك خبراء قانون دولي للمساعدة في صياغة الطلبات لضمان اتساقها مع المعايير الدولية (.
- استخدام الدبلوماسية الهادئة والرفيعة المستوى: يتطلب الأمر انخراطًا مباشرًا من كبار المسؤولين في البلدين. قد يكون من المفيد عقد لقاءات على مستوى وزراء الخارجية والعدل لمناقشة القضية ووضعها في إطار التعاون القضائي بين البلدين بدلًا من تركها كملف أمني بحت. الحوار رفيع المستوى يمكن أن يبلور حلولًا خلاقة (كإنشاء لجنة تحقيق مشتركة أو نقل مؤقت لمكان المحاكمة) ويضمن أن القرار النهائي يأخذ بعين الاعتبار عمق العلاقات الاستراتيجية بين موسكو ودمشق.
- الالتزام بإطار العدالة الانتقالية في سوريا: قضية بحجم مجازر الساحل السوري يجب أن توضع في سياق العدالة الانتقالية الشاملة في البلاد. على السلطات السورية طمأنة الجميع بأن محاسبة محمد جابر ليست حالة معزولة، بل جزء من نهج عام لملاحقة كل من ارتكب انتهاكات جسيمة بغض النظر عن الجهة التي ينتمي لها. هذا الالتزام العلني سيحظى بدعم شعبي ودولي، وربما يشجع موسكو أيضًا على التعاون إذا رأت أن حليفها السابق يواجه محاكمة عادلة ضمن عملية مصالحة وطنية أشمل.
- التحضير لسيناريو المماطلة: في حال طال أمد المساعي دون نتيجة بسبب تعنت روسي أو ثغرات قانونية، على دمشق أن تكون مستعدة للمحاكمة الغيابية وإصدار حكم قضائي وطني يدين محمد جابر. صحيح أن الحكم الغيابي رمزي التنفيذ كما أشرنا، لكنه سيبني أساسًا قانونيًا يمكن تفعيله فور تغيير الظروف (مثلاً إذا سقطت عنه الجنسية الروسية أو غادر إلى دولة ثالثة). كما أن وجود حكم قضائي سوري قد يُستخدم مستقبلًا أمام محاكم دول أخرى إن حاول جابر السفر أو تم توقيفه صدفة خارج روسيا.
بانتهاج هذه الخطوات بشكل متوازٍ ومدروس، يمكن تضييق الخناق القانوني والدبلوماسي على محمد جابر ومن هم على شاكلته من مرتكبي الفظائع مثل بشار الأسد الذي يحمل وضعية اللجوء الإنساني في روسيا. النجاح لن يكون مضمونًا وسريعًا، لكنه ممكن عبر المثابرة والتعاون الصادق بين دمشق وموسكو، وبمساندة المجتمع الدولي الحريص على استقرار سوريا واحترام سيادة القانون فيها.
خاتمة
تظل قضية محمد جابر اختبارًا حاسمًا لقدرة كل من سوريا وروسيا على الموازنة بين اعتبارات العدالة وشروط السياسة. فمن الجانب السوري، يشكّل الإصرار على محاسبة المسؤولين عن مجازر الساحل رسالة قوية على دخول البلاد مرحلة جديدة تضع حماية المدنيين وسيادة القانون أولوية قصوى، بما يتجاوز أي ولاءات سابقة. أما بالنسبة لروسيا، فالتعامل بشفافية وحزم مع هذه القضية سيظهر احترامها للقانون الدولي وحرصها على استقرار حليفها الشرق أوسطي من خلال عدم توفير ملاذ آمن لمرتكبي الجرائم الخطيرة.
في المحصلة، التحديات القانونية والدبلوماسية في قضية جابر عديدة ومتشابكة، لكنها ليست مستعصية على الحل. يتوقف الأمر على توفر إرادة سياسية حقيقية تضمن تحقيق العدالة للضحايا، وعلى ابتكار صيغ عمل تخرج عن المألوف عندما تسد الطرق التقليدية٬ كما يمكن أن ترسم هذه القضية سابقة في العلاقات السورية الروسية وفي كيفية معالجة جرائم حقبة الحرب ضمن أطر قانونية، وبالتالي فإن نجاحها في تحقيق نتيجة عادلة سيبعث برسالة أمل بأن القانون يمكن أن ينتصر في نهاية المطاف، حتى وسط أكثر الملفات تعقيدًا وحساسية.
المراجع
- الدستور الروسي، المادة 61 – المتعلقة بعدم جواز تسليم المواطنين الروس إلى دول أجنبية.
- قانون العقوبات الروسي، المادة 12 – بشأن صلاحية محاكمة المواطنين الروس عن جرائم ارتكبت خارج الأراضي الروسية.
- اتفاقية التعاون القضائي بين الجمهورية العربية السورية وروسيا الاتحادية – الموقعة في يوليو 2022، والتي تتضمن بنودًا حول تسليم المجرمين والمساعدة القانونية المتبادلة.
- قانون أصول المحاكمات الجزائية السوري – المواد 1 و17، التي تحدد دور النيابة العامة في تحريك الدعوى العامة من تلقاء نفسها في حال وجود دلائل كافية.
- أرشيف الشرطة الجنائية الدولية (الإنتربول) – حول إعادة تفعيل التعاون مع سوريا عام 2021 ورفع القيود المفروضة على المكتب الوطني في دمشق.
- تصريحات محمد جابر في برنامج "طوني خليفة" – بثّ عبر قناة المشهد بتاريخ 8 نيسان/أبريل 2025، واعترف خلاله بدوره في أحداث الساحل السوري.
- تقارير حقوقية سورية ودولية – حول المجازر المرتكبة في الساحل السوري خلال فترة النزاع، وتوثيق الهجمات على المدنيين وقوات الأمن.
- محاولات سابقة لمحاكمة مقاتلي مجموعة فاغنر أمام القضاء الروسي – كمثال على إمكانية ملاحقة المواطنين الروس لجرائم ارتُكبت في الخارج.
- أدبيات العدالة الانتقالية – المتعلقة بإمكانية إجراء محاكمات وطنية وغيابية لمرتكبي الجرائم الجسيمة ضمن سياق المصالحة الوطنية.
- تصريحات ومواقف رسمية لوزارات العدل والخارجية في سوريا وروسيا – بخصوص تفعيل اتفاقيات التعاون القانوني والقضائي.
__________________________________________________________________
(للاطلاع على التقرير كملف pdf يُرجى تحميل الملف المُرفق أسفل الصفحة)
---------------------------------------------------------------------------------------
الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025