Syria Inside
التنظير وحركات استنساخ النهضة

التنظير وحركات استنساخ النهضة

التنظير وحركات استنساخ النهضة

 

بقلم: سامي النملي

النهضة وتحقيق التنمية وعودة دولنا العربية والإسلامية لريادة العالم من أهم المواضيع التي تدار في جميع الأوساط المهتمة بالشأن العام في مجتمعاتنا، وسؤال "كيف يمكننا أن ننهض؟" من أهم الأسئلة التي تُطرح في هذا الخصوص وهذا ليس سؤالاً جديداً، بل قديم قدم ترجل أمتنا عن ركب الحضارة قبل عشرات السنين، وقد شهدت منطقتنا الكثير من المراحل والمتغيرات التي أثرت في الأجوبة المطروحة وبالتالي بتوجهات الحركات التي تسعى للنهضة وتغيير الواقع.

 

 

جذور المشكلة

 

بعد عدة هزائم عسكرية كبيرة أدركت الدولة العثمانية تأخرها عن ركب الحضارة وأهمية التطور التقني والإداري الذي تفتقر له، وقررت أن تقتدي بالتطور أوروبي فأرسلت البعثات الشبابية لتتعلم وتنهل من التطور التقني والإداري والعسكري لهذه الدول، وكان لهذا الأسلوب آثار إيجابية عديدة ولكن كان له أيضاً آثار أخرى لم تكن من أهداف هذه الابتعاثات، وهي التأثر الحضاري والفكري لهؤلاء المبتعثين بتلك الدول وخصوصاً فرنسا التي كانت تشكل المركز الحضاري الأهم في العالم، بعيد الثورة الفرنسية وما حملته من أفكار جديدة عن الدولة القومية والمساواة وتحييد الكنيسة عن الحياة السياسية، فأراد هؤلاء الشباب نقل التجربة الأوروبية (والفرنسية خصوصاً) إلى عالمنا كما هي دون أي تعديل متجاهلين الاختلافات الاجتماعية والدينية والثقافية والديموغرافية لمجتمعاتنا عن المجتمعات الأوروبية.

 

 

محاولات سطحية

 

أدى هذا التأثر والرغبة الجامحة في التغيير لدى الشباب المتعلم في أوروبا (الذين بدأوا يشكلون نخبة المجتمع بفعل التعليم الجيد الذي حصلوا عليه) إلى قيامهم بحركات استخدمت الأفكار والتنظيرات الأوروبية لحركاتهم، دون إجراء دراسة وافية لطبيعة المجتمعات الإسلامية التي عاشت في الإمبراطورية العثمانية وما يناسبها من حلول، ودون فهم صحيح للمشاكل التي تعاني منها هذه المجتمعات، فاصطدم هؤلاء المبتعثون بواقع مختلف عن ما شهدوه في أوروبا وفرنسا وردات فعل مختلفة أيضاً كانت من الأسباب التي عجلت في وفاة الدولة العثمانية بعد سنوات من المرض.

 

وبعد أن قامت دولنا العربية على أنقاض الولايات العثمانية حملت النخب العربية ذات العقلية وبدأت بنسخ الحلول الأوروبية الجاهزة ولصقها بحركاتها النهضوية وشجعها على ذلك السيطرة الأوروبية على المنطقة بعد سقوط الدولة العثمانية، فتحولت النخب الثقافية إلى نسخ أوروبية لا ترى أي حل أخر للنهضة، ولكنها أيضاً عادت واصطدمت بالواقع المختلف وعانت من ذات المشاكل التي عانت منها الدولة العثمانية بالإضافة للمشاكل الإضافية التي خلقها المستعمر الأوروبي.

 

 

شيطنة التنظير

 

إذا نزلت إلى الشارع في بلادنا وسألت الناس عن معنى كلمة تنظير، ستجد أن معظم الأجوبة تصفها بأنها الحديث عما يجب أن يكون دون أي عمل أو تحرك حقيقي، وستجد أن النظرة الاجتماعية السائدة لهذا المصطلح نظرة سلبية تصف المنظرين بأنهم كسالى لا يجيدون إلا الحديث والنقد من بعيد دون أي تدخل في الأحداث، وهذا يعطل الوظيفة الحقيقية للتنظير والمنظرين، فالمنظرون الذين يضعون النظريات هم من يرسم المخطط الذي تمشي عليه الحركات السياسية (كما يضع المهندس المخططات ويجهزها قبل البدء بالبناء)، وضعف التنظير في عالمنا يعكس الفشل في التطبيق.

 

 

استعجال الثمرة والتغيير بالقوة

 

أدى ضعف التنظير وتراكم المشاكل في عالمنا ببعض الحركات إلى استعجال الثمرة والعمل على الوصول إلى السلطة والتغيير السريع  للمجتمع باستخدام القوة، دون تربية وإعداد وترويج لأفكارهم داخل المجتمع بالشكل الكافي، فلم تكتفي هذه الحركات بضعف التنظير وفقه الواقع لديها بل وبدأت باستخدام وسائل غير مشروعة للوصول إلى السلطة ولعل أوضح مثال على ذلك كان حزب البعث في سوريا، فقد كان البعث يعمل على تجنيد الضباط ليصل إلى الحكم بانقلاب عسكري وعن طريق السلطة يغير المجتمع ويلقنه أفكاره تلقيناً، دون وجود قاعدة شعبية حقيقية، وكما هو متوقع ومعروف تسلط العسكر "ممثلين باللجنة العسكرية" على الحزب والسلطة وأفرغوا الحزب من مغزاه ومنطلقاته الفكرية (الضعيفة أساساً) ونحوّ قياداته المدنية والفكرية، فعاشت مجتمعاتنا تحت الدكتاتوريات العسكرية التي ساهمت بشيطنة التنظير وحاربت الفكر والإصلاح لضمان سلطتها، ولم تأبه هذه الفئات الحاكمة بالتغيير والنماء، وإذا عدنا إلى حزب البعث فسوف نجد أن الأسد (بعد أن حارب أسلافه من البعثيين البرجوازية التقليدية في سوريا) عاد لاحقاً وبنى طبقة أولغيشارية بورجوازية من رجاله وأقاربه المخلصين، وعادت مظاهر الرأسمالية (التي يحاربها البعث) إلى الظهور شيئاً فشيئاً ولكن تحت عباءة الأسد وقد زاد الأمر سوءاً في أيام ابنه بشار الذي لم يتمتع بحنكة أبيه وذكائه فبدأ بالانفتاح الاقتصادي بشكل فج آذى الاقتصاد السوري وعزز من سيطرة الأولغشارية الأسدية، وعمقت مشاكل المجتمع وفقره، مما زاد الضغط الذي أدى بسوريا إلى أن تتحول إلى أكثر نماذج الربيع العربي دموية، وهو ما يدل على ضعف إن لم يكن انعدام في الإيمان بمبادئ حزبهم "الاشتراكية".

 

 

السطحية من جديد

 

شكل الربيع العربي الصدمة الحضارية التي كنست جميع الأفكار القديمة ووقعت على شهادة وفاة التيارات السياسية القديمة التي نشأت خلال القرن الماضي وكشفت ضعفها البنيوي والفكري وأنها فشلت في مواكبة عجلة التقدم على جميع مستويات، ولكن وحتى الآن تستمر بعض الأصوات بالدعوة إلى التغيير القشري السطحي بعيداً عن أي عمق أو تحليل، فيختزلون النهضة الأوروبية الصناعية بأمور لا تمت إلى التقانة والعلم والنهضة بصلة كحقوق المثليين وقوانين الأحوال الشخصية المدنية وغيرها من مظاهر الحياة الأوروبية المخالفة لتقاليد مجتمعاتنا التي (بغض النظر عن صوابيتها أو خطأها) لا تلعب أي دور في التطور العلمي والتقني والسياسي، ولكنها تسبب شرخاً واصطداماً مع المجتمع، ولنا في التجربة التركية خير مثال، فتركيا بقيت تعاني من الفقر والتخلف مع أنها ذات نظام مستوحى من النظام الفرنسي وقوانين تحارب الحجاب وتبيح جميع مظاهر الحياة الأوروبية وتقنن الدعارة والكحول، ولكن خلال ما يقارب الـ 80 عاماً من هذا الحكم لم تحقق البلاد التقدم العلمي والتقني وحتى الخدمي المطلوب، الذي تحقق عندما استلم الحكم فيها حزب محافظ متصالح مع الإسلام، فقام بمجهودات نقلت تركيا نقلة هائلة في كل المجالات حتى صارت تركيا تنافس في مجال تصنيع المسيرات العسكرية، والسيارات الكهربائية وغيرها من الصناعات، وهذا مثال واضح على أن القشور التي يتمسك بها البعض لا تلعب أي دور في التنمية إذا لم يكن هناك تطوير مدروس للتعليم والخدمات والبنى التحتية.

 

 

اللعب على السطحية

 

وللحق فإن القوى الإقليمية والعالمية التي تريد لدول المنطقة أن تبقى ضعيفة مفككة كما هي، تدرك أن سطحية التفكير والاهتمامات والافتقار للتنظير العميق والواقعي هو نقطة ضعف خطيرة وعائق كبير أمام التقدم والازدهار ولذلك تشجع هذه الدعوات السطحية وتدمجها بالحقوق السياسية كفصل السلطات وحرية التعبير والديمقراطية والتطور التقني، وتضع هذه القوى أي إسلامي يصل إلى السلطة في موضع الاتهام بما يخص هذه الأمور، والإدارة السورية الحالية أكبر مثال، فبعد أيام قليلة من سقوط نظام الأسد قامت وسيلة إعلام "عالمية عريقة" بمقابلة مع أحمد الشرع، وبعد 14 عاماً من الحرب والموت والدمار ورغم كل ما تعيشه البلاد من أزمات أمنية واقتصادية وعسكرية وطائفية وثقافية واجتماعية وجد المذيع خلال الـ 30 دقيقة المخصصة لمقابلته مع أهم شخصية في البلاد وقتاً ليسأل عن موقف الحكومة من شرب الكحول متجاهلاً المئات من المواضيع المهمة والتي تمس صميم احتياجات ومخاوف وآمال السوريين ومحيطهم وكل مهتم بهم، وهذا بلا شك تشتيت واضح للأنظار والمجهودات إلى أمور ثانوية جدلية في مجتمعاتنا العربية.

 

 

 

بعد هذا الاستعراض المختصر لابد لكل مهتم بنهضة وتنمية المجتمع من فهم الواقع واستنباط حلول مناسبة له، مبنية على تنظير وتحليل مفصلان ومحايدان وشاملان يولدان حلولاً واقعية لواقع المجتمعات بدروس مستفادة من باقي الأمم والحضارات، وليس باستنساخ حلول الأخرين ولصقها كما هي، أو باستنساخ نماذج إدارية وتعليمية وتقنية عمرها مئات السنين لا تواكب التطور المتسارع الذي نعيشه اليوم، ولتحقيق التنمية والتطور والرخاء التي نطمح لها، يجب أن نبرّأ التنظير من تهمة السلبية والكلام الفارغ الذي لا يعقبه أي عمل، ونحرر عقولنا من قيود العقليات المتحجرة، فالتنظير هو قرين التخطيط والعمل بلا خطة سيرٌ حتمي نحو الفشل.

 

سامي النملي صحفي سوري

 


 

مقالات الرأي التي تنشرها المؤسسة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة

-------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025

374.64 KB

Follow Us on Facebook

Newsletter


Follow Us on Twitter

2015 © Copyrights reserved for Syria Inside for studies and researches