Syria Inside
كيف تغير الوعي الجمعي السوري بعد الحرب

كيف تغير الوعي الجمعي السوري بعد الحرب

كيف تغير الوعي الجمعي السوري بعد الحرب


د. عبير الحسين

كاتبة وباحثة وأكاديمية سورية

 

الوعي الجمعي هو مجموعة المعتقدات والقيم والمواقف والأفكار المشتركة التي تشكل وجدان مجتمع ما وتوحد افراده، وهو نتاج للتاريخ والثقافة، ويعد ركيزة أساسية للتطور الاجتماعي والتماسك وقد يظهر في السلوك الجماعي كاستجابة موحدة لمواقف مشتركة أو كقوة للتغيير، ويتأثر بالتعليم والاعلام والتواصل الاجتماعي.

وتأتي أهميته من انه يعمل على بناء الهوية لأنه يساهم في ترسيخ الهوية الوطنية والحفاظ عليها، كما انه يعتبر ركيزة أساسية للتطور والتقدم الاجتماعي وهو درع الحماية امام الأفكار المضللة والتحديات الخارجية وهو من يعزز تماسك المجتمع، كما انه يوحد الأهداف ويوجه السلوك الجماعي نحو اهداف مشتركة ويكون منطلق في حل كافة المشكلات.

ولكن هل يتدهور الوعي الجمعي؟؟

يمكن أن يتدهور الوعي الجمعي بعدة أسباب منها: اول الأسباب التي تؤدي الى تدهور الوعي الجمعي هو تعرض المجتمع لازمات شديدة تؤثر سلبا عليه، أهمها الاستبداد والقمع السياسي التي غالبا ما تفرض قيم معينة تدور حول مصلحة السلطة فقط الامر الذي يؤدي الى تشكيل وعي جمعي مشوه تماما، يدور في فلك طاعة السلطة المستبدة ويقضي بالتدريج على الثقافة الوطنية والقيم المتعارف عليها بين الناس، كما ان الحروب تترك اثر سلبي جدا في الوعي الجمعي، ففقدان الأمان والتشرد وانتشار الموت ، ناهيك عن الوضع الاقتصادي الذي يحول كل اهتمامات ووعي الانسان الى حاجياته الأساسية فقط ، إضافة الى عامل مهم جدا هو التضليل الإعلامي واستخدامه فقط لمصلحة جهة معينة فيساعد على القضاء على القيم تدريجيا.

كيف تغيّر الوعي الجمعي للسوريين؟

من الطبيعي ان يتغير الوعي الجمعي السوري بعد العديد من الازمات المتلاحقة التي اصابته ، بدءاً من القمع السياسي الرهيب الذي عاناه من حكم الأسد الاب والمجازر التي قام بها وارهبت الناس، وسلوك الأجهزة الأمنية التي قبعت على قلوب الناس التي أكملت دائرة الإرهاب والرعب للمواطنين السوريين، اصبح المواطن فيه اقصى ما يتمناه هو الامن وسد ابسط الاحتياجات له ولأولاده ، وانتهاءً بحكم الأسد الابن الذي قامت في عهده ثورة الحرية والكرامة وما قام به من سلوك وحشي للحفاظ على كرسيه من قمع وقتل للمتظاهرين إضافة الى قصف المدنيين في مدنهم وقراهم وتدمير مدن بأكملها، كل ذلك لم يغير فقط بالوعي الجمعي السوري ، انما أصابه في مقتل ،ففقد المواطن السوري الثقة بالدولة والمؤسسات الحكومية بعد تعدد أساليب القمع والقتل ضد المواطن السوري، هذا الامر جعل المواطن السوري في صدمة ، هل يمكن لحكومة بلد ان تفعل في مواطنيها هذا، كان من نتيجة ذلك ان أصبحت الدولة والحكومة عدو واضح مبين للمواطن السوري وطرف في الصراع الذي يعانيه، عدا عن انهيار الخدمات تماما، و مما زاد من معاناة المواطن السوري انتشار الفساد والمحسوبيات وغياب شبه تام للحقوق، ومما نقل الوعي الجمعي السوري الى حيز خطير جدا، تفكك الهوية الوطنية السورية الجامعة وظهور هويات فرعية (طائفية -عرقية)، ومما ساعد على تعزيز ظهورها كان النظام لأنه استخدمها ضد الثوار واستطاع استغلالها لأقصى ما يمكن، يضاف الى ما سبق انقسام السوريين بين مؤيد للثورة ومؤيد للنظام، وهذا أدى الى ان اصبح جزء من الشعب عدوا للجزء الاخر، لا لشيء فقط لان موقفهم من الثورة والسلطة كان على طرفي نقيض، فتغيرت معه التوجهات والقيم والاهداف، كلٌ حسب موقفه، كما أن تمركز اطراف الصراع في مناطق جغرافية خاصة (مناطق النظام السابق- مناطق المعارضة-مناطق قسد) كان له دور خطير في تعزز التشرذم للهوية السورية الجامعة، يضاف اليها المعاناة الشديدة للسوريين اثناء الحرب (مناطق النظام عانت من وضع معيشي قاسي جدا يفتقد فيه المواطن ادنى احتياجاته، والمواطن في مناطق المعارضة يفتقد الامن مع القصف المستمر للنظام لمناطق المعارضة)، كل تلك الأسباب ساعدت على انهيار الوعي الجمعي السوري ، فالتحديات التي واجهها لم تكن بالأمر السهل الذي يمكن التعامل معه، واستمر الوضع على هذه الحال من السلبية الى ان سقط النظام المجرم.

لكن سقوط النظام السوري لم يكن مجرد حدث سياسي فقط، انما كان نقطة تحول في الوعي الجمعي السوري لأنه أحدث انهيارا للكثير من المعتقدات والقيم والأفكار المشتركة من ناحية وكذلك فتح الأفق امام قيم وأفكار جديدة لم يجرأ السوري سابقا على مجرد التفكير بها من ناحية ثانية، فقد انكسر حاجز الخوف، وارتفع الوعي بقيمة المواطن، وجرب المواطن السوري لأول مرة الشعور الحقيقي بالحرية والكرامة بعد عقود من الذل والاهانة، والمطالبة بمحاسبة كل مجرم ومنتهك لحقوق الانسان في عهد النظام البائد، هذه المظاهر التي لم تكن يوما جزء من وعي السوري سابقا، ولكن في المقابل من ذلك كانت هناك احداث دامية بدأت بعد فترة من التحرير، حيث لم تستطع العقول الطائفية ان تتقبل فكرة سقوط النظام المجرم ولا زالت تعمل على زعزعة امن واستقرار البلد من فلول للنظام في الساحل الى  احداث السويداء واشكالية قسد وجهدها للانفصال، ان هذه الاحداث تدمر فكرة وحدة الوعي الجمعي السوري تماما، ان لم تشكك بوجودها للأسف.

لم يعد الوعي الجمعي السوري وعياً واحداً، انما تحوّل إلى فسيفساء من الوعي، مليئا بالتناقضات للأسف. 

ولكن وعلى الرغم مما مر به الوعي الجمعي السوري ، فإنه ليس الوحيد بالتغير والتشظي، انما كان هناك العديد من الحالات الكثيرة التي شهدت تغيرا سلبيا في الوعي الجمعي كما حدث في ألمانيا في عهد النازية التي حملت أفكارا متطرفة مثل التفوق العرقي الذي أدى فما بعد الى كوارث إنسانيةـ وأيضا رواندا وما حدث فيها من اعلام هدفه تعميق الكراهية بين المسلمين والمسيحيين فيها ما أدى الى مذبحة جماعية ، فالتغير بالوعي الجمعي يمكن ان يحدث في الكثير من المجتمعات، ولكن البقاء عليه سلبيا ومشوها هذا ما ليس طبيعيا، فقد استطاعت كثير من البلاد التي عانت من هكذا حالات من النهوض والتقدم والتحول الى اشكال متقدمة وناجحة ، فقد اعادت المانيا بناء وعي جمعي جديد قائم على الديمقراطية وتعزيز حقوق الانسان.

لذلك لابد من العمل على إعادة بناء الوعي الجمعي السوري من جديد، وسيكون ذلك من خلال:

تعزيز القيم التسامح والتنوع والمواطنة وتشجيع الحوار والنقاش بين الشرائح والمجتمعية المختلفة والعمل الجدي على القضاء على الشرخ الذي احدثه بينها حكم آل الأسد، وتنظيم عمل المؤسسات للقيام بدورها الحقيقي في تعزيز حقوق وكرامة المواطن وتعزيز القيم المجتمعية وإصلاح مؤسسات الاعلام ودعم الاعلام المهني المستقل ، والقيام بمبادرات مجتمعية تجمع السوريين حول وطنهم من جديد وإعطاء الفرصة لمؤسسات المجتمع المدني للقيام بدروها أيضا، إضافة الى انشاء مراكز أبحاث على أسس علمية اكاديمية تكون مهامها الأساسية العمل على تحليل ودراسة الظواهر السلبية في المجتمع وتقديم الحلول المناسبة للحكومة للعمل عليها، وهناك امر مهم جدا يجب العمل عليه وهو تضمين المناهج التعليمية على قيم توحد السوريين وتكون جزءا أساسيا فيها.   

إن إعادة الإعمار الحقيقي في سوريا لا يشمل فقط بناء الاقتصاد من جديد أو بناء المدن والقرى التي دمرتها الحرب، انما بناء الهوية الوطنية السورية، إعادة بناء القيم والمعتقدات التي كان عليها السوريين والتي كانت أبرز أسباب توحدهم قبل عقود حكم آل الأسد المظلمة.

إن ما يجمعنا أكثر مما يفرقنا، وتاريخنا العريق شاهد على ذلك، ولابد للحكومة أن تستغل هذه الميزة وتنطلق منها لوضع خطة محكمة لترميم ما تشوه من وعي جمعي سوري.

 


 

مقالات الرأي التي تنشرها المؤسسة تعبر عن رأي كاتبها ولا تعبر بالضرورة عن رأي المؤسسة

-------------------------------------------------------------------------------------

الحقوق الفكرية محفوظة لصالح المؤسسة السورية للدراسات وأبحاث الرأي العام © 2025

 

 

401.54 KB

Follow Us on Facebook

Newsletter


Follow Us on Twitter

2015 © Copyrights reserved for Syria Inside for studies and researches